قبل تسع سنوات، فيما كان الخراب يتمدّد على الأرض السورية، وتتوالى الانقلابات في مصر، بعدما أشعلت تونس شرارة ما سمّي بـ «الربيع العربي»، خرجت منظمة «مناظرة» المسجّلة في واشنطن وكذلك في تونس. المبادرة التي أسّسها الجزائري بلعباس بن كريدة، تقوم على فكرة إنشاء منصة تسمح لفئات اجتماعية مصنّفة على أنّها «مهمّشة» في العالم العربي (الشباب والنساء)، بمنحها «فضاء يتميز بالتطور والتسامح تجاه المواقف المتباينة» تبعاً لما تنشره على موقعها الإلكتروني. المبادرة التي ما زالت مستمرة في تونس ــ تربتها الخصبة ــــ بعدما تغلغلت في إعلامها وإذاعاتها، وأقامت مناظرات تخصّ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، تبثّ اليوم حلقات متعلقة بمواضيع تونسية محددة وباللهجة المحلية يشارك فيها شباب تونسيون، بمعيّة بعض الإعلام المرئي والمسموع (هناك قنوات تونسية رفضت الانخراط في هذا المشروع ونقابات إعلامية عبّرت عن شكوكها حيال الجهة المموّلة له).
هذه التجربة انتقلت أخيراً، إلى بيروت، بعد جولة على 15 بلداً، في المنطقة العربية، من ضمنها اليمن، المغرب، الأردن وسوريا (صُوّرت غالبية الحلقات في اسطنبول). بيروت التي ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية ونقدية غير مسبوقة، يعاني إعلامها المحلي من نزيف حقيقي في الموارد، يسعى إلى تأمينها عبر ملء أجندات سياسية من هنا وهناك. تسلّلت هذه المبادرة، إلى الداخل اللبناني المشرذَم بالسياسة والإيديولوجيا، وجمعت وسائل إعلام محلية، دخلت كشريكة في البث الموحّد: «الجديد»، otv ،nbn، «تلفزيون لبنان»، وإذاعتا «صوت لبنان» و«صوت الشعب». سلسلة من الحلقات بعنوان «لبنان Townhall»، بدأت تزامناً مع ذكرى الاستقلال، وبُثّت على المحطات والإذاعات المذكورة آنفاً، أدارها الإعلامي زافين قيومجيان. تناولت الحلقة الأولى، الأزمة الاقتصادية في لبنان، تحت عنوان «المعاش... ما عاش». ساعتان بدون فواصل إعلانية، قادهما قيومجيان، بمشاركة 10 شبان وشابات لبنانيين/ات، تمّ اختيارهم تبعاً لتصفيات أجراها القائمون على المبادرة، وخضع هؤلاء بعد ذلك لتدريبات التناظر والنقاش. حلقة جمعت أيضاً، خبراء في الاقتصاد وعلم النفس والأكاديميا وعالم الأعمال، وانقسمت إلى ثلاثة محاور.
ساعتان بدون فواصل إعلانية، قادهما زافين قيومجيان، بمشاركة 10 لبنانيين


تقوم حلقات «لبنان Townhall» على مبدئية الوقت الذي لا يتجاوز لكلّ خطاب 99 ثانية، مع فتح النقاش مع الخبراء. في محصّلة الحلقة، «ضاعت الطاسة»، بين مشتركين يُفترض أنهم مدرّبون على فنون المناظرة، وإذ ببعضهم يتعثّر بقراءة خطابه المعدّ عن الأزمة الاقتصادية ومخلّفاتها ويسيطر عليه الارتباك، فيما ذهبت بقيّة النقاشات المتعددة الأوجه في الاستديو، إما نحو التسطيح، أو تضييع المشاهد مع تقاذف الحوار بين المشتركين والخبراء. وبينما روّجت المبادرة لاجتراح حلول تتعلّق بأزمة متجذّرة وعميقة في لبنان، رأينا أن أغلب اقتراحات هذه الحلول صبّ إما في الكلام العمومي المتداول عن ضرورة تغيير النظام السياسي والاقتصادي، أو الارتماء في أحضان «البنك الدولي»، في سبيل الإنقاذ!
البث الموحّد تباهت به الرئيسة التنفيذية للعمليات في مبادرة «مناظرة» فدوى الزيدي، في إحدى المقابلات الإذاعية، لافتةً إلى أنه يسعى إلى تحقيق أكبر عدد من الجمهور، ضمن «خطاب محايد وموضوعي»، لإخراج «المشاهد من القوقعة» و«عيش لحظة مشتركة»، إلى جانب تصريح بن كريدة، بأنّ الـ «مناظرة» حلّت على بلد يعيش انقساماً في وسائل الإعلام، وأرادت «تشكيل نموذج لخلق حوار موحّد بين اللبنانيين»، و«هدم الأسوار التي بنتها الوسائل الإعلامية». هكذا، ارتأت الزيدي أنّ الحلّ يكمن في توحيد البث، وإمساك المشاهد بدل إتاحة خيارات أخرى له، على الشاشة، وإسماعه خطابات رنّانة، دأب الإعلام المحلي على اجترارها ولو بطرق أخرى. بثّ موحّد شاركت فيه أربع محطات تلفزيونية، وإذاعتان، مع غياب قناتين أساسيتين هما: mtv، وlbci. ولدى سؤال «الأخبار» في المؤتمر الصحافي الذي عُقد لإطلاق المبادرة، عن غياب باقي الوسائل الإعلامية، أجابت الزيدي، بأن ما أعاق البث الموحّد لدى القناتين، هو الشبكة البرامجية الموضوعة مسبقاً، مع دخول قناة «المرّ» بث باقي الحلقات التي ستُنفذ في العام المقبل، فيما ارتأت lbci، الدخول في هذه الحلبة، الشهر المقبل، مع عرض الحلقة الثانية من «لبنان Townhall» (13 كانون الأول/ ديسمبر الحالي)، بينما كان لافتاً تغييب اسم «المنار» بشكل أساسي. اتضح في ما بعد، أن القيّمين على مبادرة «مناظرة» لم يتواصلوا في الأصل مع إدارة المحطة، واستثنوها من خارطة الإعلام المرئي المحلي!

اختلط النقاش واتجه في كثير من الأحيان نحو السطحية

ولدى البحث عن المموّلين لهذه المبادرة، لا تخفي الأخيرة شركاءها المباشرين في التمويل، على رأسهم «مؤسسة المجتمع المنفتح» التي يملكها الملياردير الأميركي الهنغاري جورج سوروس، الذي يُعتبر من أكبر المموّلين للمنظمات غير الحكومية حول العالم، ويوصف بـ«العقل المدبّر» لما اصطُلح على تسميته بـ «الثورات الملوّنة» في جورجيا وأوكرانيا، و«ثورات الربيع العربي» في مصر وتونس، ودعم حركات وشخصيات سياسية هناك. فما الذي أتى بهذه المبادرة اليوم تحديداً إلى لبنان، المنقسم على ذاته سياسياً، وشعبه يرزح تحت أكبر أزمة اقتصادية ونقدية، وإعلامه يعيش أزمةً في التمويل، ويسعى إلى «الفريش» دولار بأي ثمن؟ هل اللحظة مؤاتية لزرع ما كان يحصل في بعض الدول العربية وتعميم نموذج «الربيع العربي» الذي بات مرادفاً لـ«الخراب العربي»، بفعل تدخل هذه الأيدي والعبث بالشوارع العربية وغير العربية؟ وهل سيتحقق المراد، في بلد تتغلغل في داخله المنظمات غير الحكومية، وتعمل على تدجين العقول، سيّما من الفئات الشبابية؟


لبنان رائداً في المناظرات
في 22 كانون الثاني (يناير) عام 1974، جرت أول مناظرة تلفزيونية في لبنان. حدث أورده الإعلامي زافين قيومجيان في كتابه «أسعد الله مساءكم... مئة لحظة صنعت التلفزيون في لبنان» (هاشيت أنطوان-2015). المناظرة التاريخية التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية بعام وأربعة أشهر، جرت وقتها بين وزير الداخلية بهيج تقي الدين، والعميد ريمون إده، وبُثت آنذاك على «تلفزيون لبنان والمشرق»، وجمعت شخصيتين سياسيتين: الأولى معارضة والأخرى مع السلطة. يذكر قيومجيان في كتابه، بأن المهمة لم تكن سهلة على الإعلامي عادل مالك الذي أدار المناظرة بهدوء وحكمة، في الاستحصال على إذن بدخول هذه المغامرة التلفزيونية، وتقديم نموذج مختلف في الحوارات السياسية على الشاشة الصغيرة. في نهاية المطاف، خلقت هذه المناظرة الأولى من نوعها على تلفزيون عربي، مشهداً أمتع اللبنانيين كما يقول الإعلامي اللبناني في كتابه، وأدخلهم حلبة الحوارات الهادئة بعيداً عن لغة التشدد «التي كانت معتمدة في الصحافة الحزبية»، قبل دخول البلاد في أتون الحرب الأهلية عام 1975. سجّل لبنان بذلك، تقدماً واضحاً في عالم «الديمقراطية» والحوارات السياسية، سابِقاً بأشواط مبادرات كـ«مناظرة»، حتى لو استمرّت وحلّت بعدها بقوة لغة الانقسام والاستقطاب.


الحيادية «تنتحر» في سوريا
عام 2015، أي بعد ثلاث سنوات على اندلاع الأزمة السورية، نُظّمت حلقات «مناظرة» في اسطنبول التركية، وحملت وقتها عنوان «الجرح العربي»، وأفسحت في المجال في الغالب أمام شباب سوري للتعبير عن هذا الجرح، عبر الموسيقى، والشعر، والرسم والكوميديا السوداء. وبعد عام، أعيد تنظيم حلقة مشابهة، تحت عنوان «لا حلّ للمأساة السورية إلا...»، طغى فيها الاستثمار السياسي، وصبّ أغلبها في الهجوم على «نظام الأسد»، والدعوة إلى التحرر من الفساد. كانت لافتةً الحلقة التي نُظمت في أيار (مايو) من عام 2017، أي بعد قرار روسيا بالتدخل العسكري المباشر على الأراضي السورية. عنونت الحلقة وقتها «روسيا دمّرت سوريا»، وتناولت التدخل الروسي، «المثير للجدل»، في «أعقد أزمات المنطقة»، وكيفية «استدعاء القوات الأجنبية»، و«تحويل البلاد إلى معسكر تدريب لخدمة الإرهابيين»!