تقول المترجمة كلير كفاناج في تقديمها لكتاب «كيف تبدأ الكتابة (ومتى تتوقّف)» للشاعرة البولندية قيسواقا شيمبورسكا إنّ «النصوص الشديدة الخصوصية التي يتألف منها الكتاب مختارة من نصائح كانت تسديها الشاعرة ـ من دون توقيع باسمها ـ طوال سنوات في عمود «بريد الأدب» في صحيفة «الحياة الأدبية» البولندية. وحفاظاً على تخفِّيها كانت شيمبورسكا تكتب بضمير جماعة المتكلمين، لأن النحو البولندي يكشف بلا رحمة عن جنس المتحدث، وقد كانت شيمبورسكا هي المرأة الوحيدة في فريق تحرير «الحياة الأدبية» التي تردّ على رسائل القراء».

إلى فولديمر، من كراكوف: بالطبع يمكنك أن تبدأ الكتابة فجأة بعد الأربعين. وليس هذا متأخراً بصفة خاصة، إذا ما أخذنا في الاعتبار قوانين أخرى تحكم مثل هذه البدايات الناضجة. تنجح البداية المبكرة من خلال طزاجة في الخيال، ورؤية للعالم لم تزل حرة من القيود. وفيها تسيطر الانطباعات ـ لا التأملات ـ وتحتل الملاحظات العفوية مكان الرؤى العميقة المستخلصة من فهم للعالم عسير المنال. ومن البداية المتأخرة، في المقابل، نتوقع فضائل إضافية: نصيباً معقولاً من الخبرة البشرية في الحالات التي لا تتعلق بسير ذاتية قائمة على المعلومات. وذائقة أدبية صيغت بوعي. باختصار، لا يجب على ابن الأربعين أو ابنتها أن يكتب أو تكتب كابن السابعة عشرة أو ابنتها، فلا الزمن في هذه الحالة سيشفع ولا القدرات الذهنية ستنفع.
■ ■ ■

إلى أ. ت. من كراكوف: ينتظم الموسيقيُّ الشاب في الكونسرفتوار، ويدرس الرسّام الشاب في الأكاديمية، وليس للكاتب الشاب مكان يذهب إليه. وأنت ترى في هذا ظلماً. وليس الأمر كذلك. فالمدارس توفر للموسيقيين والرسامين المعرفة التقنية الأولية المهمة، المعرفة التي ستقع تحت ضغط كبير لاكتسابها بنفسك، وفق نظام قصير نسبياً. ما الذي يمكن أن يتعلّمه كاتب في معهده؟ إن أي مدرسة عادية توفر كل ما يلزم لتحريك قلم على الصفحة. ليس للأدب أسرار تقنية، أو على الأقل، ليست له أسرار يستعصي استخلاصها على الهاوي الموهوب (فما من شهادة لتنفع عديم الموهبة). الأدب هو الأقل مهنية بين جميع المجالات الفنية. قد تبدأ الكتابة في العشرين، أو السبعين. قد تكون أستاذاً جامعياً أو عصاميَّ التعلم. قد تتهرب من دراستك الثانوية (شأنَ توماس مان) أو تحصل على درجات الدكتوراه الفخرية من جامعات عدة (شأنَ توماس مان أيضاً). فالطريق إلى پَرْنَاسُوسْ (جبل الملهمات والإلهام) مشرَّع للجميع، على الأقل من حيث المبدأ، فالجينات هي صاحبة القول الأخير.
■ ■ ■

إلى يوج، من إنوركلو: هي الشكوى القديمة نفسها بشأن «الشباب». هذه المرة يفترض أن نغفر لكاتب لأنه لا راح ولا جاء، ولا عرف من الدنيا شيئاً يُذكر، ولا قرأ شيئاً مما ينبغي أن يقرأه. تنمّ مثل هذه الاعترافات عن اعتقاد (مراهق، ومن ثم اختزالي) بأن ظروفاً خارجيّة فقط هي التي تصنع الكاتب، وأن إبداعه يأتي من كمّ المغامرات في حياته. والحق أن الكاتب يتكوّن داخلياً، في قلبه وعقله: عبر ميل فطري (نكرِّر: فطري) إلى التفكير، وحساسية مرهفة تجاه الأمور البسيطة، ودهشة إزاء ما يراه غيره من طبائع الأمور. رحلات خارجية؟ نرجو صادقين أن تقوم بها، فهي أحياناً تؤدي الغرض. لكن قبل أن تتوجه إلى كابري، نقترح عليك رحلة إلى فولكا الصغرى (في جنوب بولندا)، فإن لم ترجع منها بشيء تكتب عنه، فلا نجاة لك في أي كهف لازوردي.
■ ■ ■

إلى تيدي، من تشيلم لوب: طبعاً، تستوجب الموهبة الحقيقية نصائح وتوجيهات، وبخاصة في البداية. لكن هذه الدروس يجب أن تأتي بسلاسة، وبطريقة أقرب ما تكون إلى العفوية. إحساس عميق بما هو أفضل أو أسوأ جمالياً، بالأهم والأقل أهمية، بما يصلح وما لا يصلح ولماذا. الأمر لا يقتصر على القراءة الواسعة والمعرفة بمختلف الاتجاهات الفكرية والجمالية. الأمر في المقام الأول غريزة. ونحن نقول هذا بأريحية بعد سنين طوال من الملاحظة. رُبَّ كلمات قليلة عن استعارة معيبة تقي شاعراً مبتدئاً من تكرار غلطة ما. ورُبَّ حوار يمتد ليوم كامل ولا نفع فيه لغيره. والغريزة نفسها هي التي ستجذب المبتدئ إلى من يفوقونه معرفةً، ويزيدون عليه خبرةً، وحساسيةً، وثقافةً. أولئك الناس قد تجدهم أينما بحثتَ عنهم. ولسنا نطلب منك أن تقطع علاقاتك بأصدقائك الحاليين، لكننا نقول ببساطة إنهم غير أهل لما ينتظر منهم. ونحن نخلص من رسالتك إلى أن قلبك ربما يكون قد سمع النداء، لكنّ عقلك لم يسمعه بعد.
■ ■ ■

إلى إليزابث، من وارسو: «كيف أعلِّم نفسي الأدب البولندي، وبخاصة الشعر؟» لو أنك غير حاصلة على شهادة التعليم الثانوي، فعليك على الأقل أن تهتمي بمنهجه في الأدب والتاريخ. تناولي مجلات أدبية. احضري أمسيات. تابعي نقاشات. ابحثي عن أصدقاء واسعي الاطلاع. هذا مسار دراسي ممتع، لكنه لا يعد بنتائج فورية. وكذلك هي الحياة. وجيزة، لكن كل تفصيلة تستغرق وقتاً.
■ ■ ■

إلى هليودور، من بشيميشو: تقول في رسالتك: «أعرف أن في قصائدي أخطاء كثيرة، لكن وما المشكلة؟ لن أتوقف لتصحيحها». طيب، لماذا يا هليودور؟ ربما لأنك تقدس الشعر أكثر مما ينبغي؟ أم ربما تعتبره أمراً تافهاً؟ كلتا الطريقتين في معاملة الشعر خاطئة، والأدهى أنهما تعفيان الشاعر المبتدئ من ضرورة الانكباب على شعره. من اللطيف دائماً أن نحكي لمعارفنا عن روح الشاعر التي استولت علينا يوم الجمعة في تمام الثالثة إلا الربع بعد الظهر وأخذت تهمس بحرارة في آذاننا بأسرار غامضة، فكنا لا نكاد نجد الوقت لتدوينها. ولكن في البيت، وخلف الأبواب الموصدة، تأتي هذه الروح لتصحّح وتحذف وتعدل تلك الأقوال الآتية من عالم آخر. الأرواح لطيفة وأنيقة ولكن حتى الشعر يا هليودور له وجهه الأرضي.
■ ■ ■

إلى ه. و.، من بوزنان، الراغب في أن يكون مترجماً: لزام على المترجم ألا يخلص للنصّ وحسب. عليه أيضاً أن يكشف كل جمال الشعر فيما يحافظ على شكله ويحتفظ قدر المستطاع بروح العصر وأسلوبه.
■ ■ ■

إلى جراجينا، من ستاراخوفيتسا: هيا بنا ننزع الأجنحة ونحاول الكتابة ونحن واقفون على أقدامنا، ممكن؟
■ ■ ■

إلى بيغاسوس (كذا)، من نيبولوميس: تسأل بالشعر المقفى إن كان للحياة مغنى (كذا). المعجم الذي بين يديَّ يجيب بالنفي.
■ ■ ■

إلى السيد ج. كر، من وارسو: أنت تحتاج إلى قلم جديد. القلم الذي معك يغلط كثيراً. هو، أكيد، مستورد.
■ ■ ■

إلى السيد ك. ك.، من بيتُم: أنت تتعامل مع الشعر الحر، وكأنه حرّ من كل شيء. ولكن الشعر (مهما يكن وصفنا له) كان، ولم يزل، وسيظل، لعبة. ولأي لعبة ـ كما يعرف كل طفل ـ قواعدها. طيب، لماذا ينسى الكبار هذا؟
■ ■ ■

لم تضع في حسبانك أن إيكاروس هذا الزمن يرى طرقاً سريعة مغطّاة بالسيارات والشاحنات، ومطارات، أَفَلَا يحتمل أن تمرّ جنب أذنه طائرة؟


إلى بوشكا، من رادُم: حتى الملل لا بد من وصفه بحماس. فكم من أشياء تحدث في يوم لا يحدث فيه شيء.

■ ■ ■

إلى بولِسلاف ل. ك.، ومن وارسو: آلامك الوجودية تَنْفَقِئُ بسهولة شديدة. لدينا ما يكفينا من اليأس والأعماق المقبضة. و«الأفكار العميقة، كما يقول عزيزي توماس (توماس مان طبعاً، ومن غيره؟)، ينبغي أن تحملنا على الابتسام». ونحن نقرأ قصيدتك «المحيط»، نجد أنفسنا نتخبط في بركة ضحلة. عليك أن تنظر في حياتك باعتبارها مغامرة فريدة حدثت لك. هذه هي نصيحتنا الوحيدة في الوقت الراهن.
■ ■ ■

إلى مارِك، من وارسو أيضاً: عندنا مبدأ هو أن كل قصائد الربيع لا تستحق النشر. هذا الموضوع لم يعد له وجود في الشعر. هو موجود بقوة وحيوية في الحياة، طبعاً. ولكن هذه نقرة وهذه نقرة.
■ ■ ■

إلى ب. ل.، من حي فروتسواف: الخوف من الكلام المباشر، والمحاولة المضنية الدائبة لإضفاء بعد استعاري على كل شيء، والاحتياج اللامنتهي إلى إثبات أنك شاعر في كل بيت: هذه هي المخاوف التي تسيطر على كل شاعر كبير مبتدئ. ولكنها قابلة للعلاج، إذا تم التشخيص في الوقت المناسب.
■ ■ ■

إلى ز. ك.، من بوزنان: استطعت أن تقحم من الكلمات الجليلة في قصائدك الثلاث القصيرة أكثر مما استطاع أغلب الشعراء في أعمار كاملة: الوطن، الحقيقة، الحرية، العدالة. تلك الكلمات ليست رخيصة. تلك الكلمات يجري فيها دم حقيقي، لا يمكن أن يغنينا عنه المداد.
■ ■ ■

إلى ميشال، في نوفي تارج: حذَّر ريلكه الشعراء الشباب من المواضيع الضخمة الكاسحة، لأنها الأصعب والأكثر تطلباً للنضج الفني. وأشار عليهم بالكتابة عما يرونه حولهم، وعن الطريقة التي يقضون بها أيامهم، وعما ضاع، وعما عُثِرَ عليه. وحثّهم على إدخال الأشياء المحيطة بنا إلى فنّهم، وكذلك صور الأحلام، وما تستدعيه الذاكرة. وكتب يقول: «إذا بدت لك الحياة اليومية فقيرة، فلا تلق اللوم في هذا على الحياة. فأنت على من يقع اللوم. إذ ليس فيك من الشاعر ما يكفي لإدراك ثراء الحياة». قد تبدو لك هذه النصيحة تافهة وثقيلة الظل. وهذا ما جعلنا نستقوي ونحن نسديها لك بواحد من أكثر الشعراء نخبوية في عالم الأدب... انظر كم أثنى على ما يسمى بـ «الأشياء العادية».
■ ■ ■

إلى أولا، من سوبوت: «تعريف للشعر في جملة واحدة... طيب». عندنا على الأقل حوالى خمسمائة تعريف، ولكن لا يوجد بينها ما يفحم المرء بدقته وشموله. كل واحد منها يعبّر عن ذائقة عصره. من جانبنا، لا نحاول أن نجرب يدنا، بسبب نزوع فطري إلى الشك. ولكننا نتذكر مقولة جميلة لكارل ساندبرغ: «الشعر: يوميّات يكتبها كائن بحري، يعيش على البر، حالماً بالطيران». ولعلّه يحقق هذا فعلاً في يوم من أيامنا هذا.
■ ■ ■

إلى ل. ك. ب. ك.، من سوبسك: نريد من شاعر يقارن نفسه بِإِيْكَارُوسْ أكثر بكثير مما تكشف عنه القصيدة الطويلة المرفقة برسالتك. يا سيد ب. ك.، أنت لم تضع في حسبانك أن إيكاروس هذا الزمن يطير فوق أفق مخالف لأفق الزمن السحيق. فهو يرى طرقاً سريعة مغطاة بالسيارات والشاحنات، ومطارات، ومدارج طيارات، ومدناً ضخمة، وموانئ عصرية فسيحة، وأشياء أخرى من هذا القبيل. أَفَلَا يحتمل أن تمرّ جنب أذنه طائرة؟
■ ■ ■

إلى ت. و.، من كراكوف: لا يخصّص وقت في المدرسة، ووا أسفاه، للتحليل الجمالي للأعمال الأدبية. يضغطون الثيمات المركزية في سياقها التاريخي. وهذه بالقطع معرفة أساسية، لكنها لن تكفي أي راغب في أن يكون قارئاً جيداً مستقلاً، ناهيك بشخص له مطامح أدبية. مراسلونا الشبان في الغالب يصدمون لأن قصيدة لهم عن إعادة إعمار وارسو في ما بعد الحرب أو عن مأساة فيتنام قد لا تكون جيدة. فهم على قناعة بأن نبل النوايا مقدم على الشكل. لكنك إذا شئت أن تكون إسكافياً محترماً، فلن يكفيك حماسك للقَدَم الإنسانية. عليك أن تعرف جلودك وأدواتك وتنتقي القالب الصحيح وما إلى ذلك... وهو ما يصحّ في الإبداع الفني أيضاً.
■ ■ ■

إلى مستر بر. ك.، من لاسكي: قصائدك النثرية متشرّبة بشخصية الشاعر العظيم الذي يبدع أعماله اللافتة وهو في حالة نشوة كحولية. قد نجازف ونخمن من قد يكون في بالك، ولكن الأسماء ليست شاغلنا هنا في نهاية المطاف. بل القناعة المضلّلة بأن الكحول ييسّر فعل الكتابة، ويكسب الخيال جرأة، والإحساس رهافة، ويؤدي عدداً آخر من الوظائف النافعة في تحريض روح الشاعر. يا عزيزي مستر ك.، لا هذا الشاعر، ولا أي شاعر من المعروفين لنا معرفة شخصية، بل ولا أي شاعر آخر، كتب أي شيء عظيم وهو تحت التأثير الخالص للشراب القوي. كل الأعمال الجيدة خرجت من الجهد، والإفاقة المؤلمة، دونما طنين لطيف في الرأس. «طالما تأتيني أفكار مع الفودكا، ولكن بعدها يصيبني الصداع» هكذا قال فيسبيانسكي. ولو أن الشاعر يشرب، فهو يشرب بين قصيدة وقصيدة. هذه هي الحقيقة العارية. لو كان الكحول يؤدي إلى شعر عظيم، لكان مواطن من كل اثنين في هذا البلد هُورَاسْ على الأقل. وهكذا نحن مرغمون على تفجير خرافة أخرى. ونأمل أنك سوف تخرج سالماً من تحت الأنقاض.
■ ■ ■

إلى إ. ل.، من وارسو: ربما عليك أن تتعلم أن تحبّ بالنثر.
■ ■ ■

إلى إسكو، من شيراتز: الشباب بالفعل مرحلة مخاتلة في حياة المرء. ولو أضفنا إلى مصاعب الشباب طموحات كتابية، فلا بد أن يتحلى المرء ببنية قوية قوةً استثنائية لكي يحتمل. مكوّنات هذه البنية ينبغي أن تحتوي على: إصرار، اجتهاد، قراءة واسعة، فضول، ملاحظة، فتور تجاه الذات، حساسية تجاه الآخرين، عقل نقدي، حس كوميدي، واعتقاد راسخ بأن العالم يستحق ما يلي: أ. أن يبقى موجوداً، ب. حظّ أفضل مما توافر له حتى الآن. المحاولات التي أرسلتها تشير فقط إلى الرغبة في الكتابة ولا شيء آخر مما سبق وصفه. عملك لا يستهدف غيرك.
■ ■ ■

إلى كالي، من لوتش: «لماذا» هي أهم كلمة في لغة هذا الكوكب، وربما في المجرات الأخرى أيضاً.
■ ■ ■

إلى بالتسيت، من سكارشسكو كام: القصائد التي بعثتها تشير إلى أنك فشلت في معرفة فارق أساسي بين الشعر والنثر. مثلاً، القصيدة التي عنوانها «هنا» مجرّد وصف نثري عادي لغرفة وما تحتويه من أثاث. في النثر يقوم هذا الوصف بوظيفة محددة: أنه يهيِّئُ المشهد لحدث قادم. ففي لحظة، سوف ينفتح الباب، وسوف يدخل شخص، وسوف يحدث شيء. أما في الشعر، فالوصف نفسه هو الذي ينبغي أن «يحدث». كل شيء يصبح ذا دلالة، ومعنى: اختيار الصور، وأماكنها، والشكل الذي تتخذه من خلال الكلمات. ولا بد لوصف غرفة عادية أن يتحول أمام أعيننا إلى اكتشاف لتلك الغرفة، والإحساس الكامن في هذا الوصف لا بد أن يصل إلى القارئ. وإلا فسوف يبقى النثر نثراً، مهما اجتهدت في تقطيع جملتك إلى أبيات منظومة. والأسوأ من كل ذلك، أن لا شيءَ يحدثُ بعد هذا.

* نُشرت هذه المقتطفات
في موقعَيْ «ليت هَب» (lithub) و«مؤسسة الشعر الأميركي»