كهلاً، كما كان يقول ضاحكاً، غادرنا سماح بعدما مازحنا في أعمارنا حتى أتت مزحته الأخيرة صدمة لكلّ من عرفه... لعلّ الشباب في سماح كان أقوى من الكهولة، فقرّر أن يحرّره منها ليبقى شاباً عصيّاً على الزمن، وعصيّاً على الغياب.مع رحيل سماح إدريس، تلوح نهاية مراحل حاول جاهداً أن يبقيها حيّةً ولو وحيداً مع بعض الحالمين مثله. فسماح في حاضره، كان يعيش مسكوناً بالماضي النضالي محاولاً إحياءه مرّة، وكاتماً خيباته مرّات. تجلس معه، فيحضر جورج حبش وأبو ماهر اليماني. تهاتفه لتسأل عن الأحوال، فيصبح الحديث عن مصر عبد الناصر…تحاول أن تستعلم عن الفترة التي درس فيها في أميركا، فلا يذكر إلا المظاهرات التي كان ينظّمها لدعم فلسطين.
كان يرى في الأطفال الجيل الذي سيرفع الهزيمة كما كان يقول جورج حبش


لكن سماح وإن كان يلبس الماضي، فقد كان شاخصاً دوماً نحو المستقبل، يكتب بسعادة قصصاً للأطفال الذين كان يرى فيهم الجيل الذي سيرفع الهزيمة كما كان يقول جورج حبش أحد أبطال سماح. ومشروع القصص لم يكن خارج إطار السياق النضالي الذي حكم حياته، بل هو أحد المسارات المتعدّدة التي كان يقترب بها من القضية. فميزة سماح هي في ابتكار المسارات كلّما شعر أنّ طوق الخذلان يشتد على عنق فلسطين، فتفتح قصصه للطفولة القلقة نوافذ على الأمل وعلى الفعل والتغيير. وفي القدرة على التغيير التراكمي، تبدو ميزة أخرى تجلّت في حملة مقاطعة إسرائيل. فرغم كل الأصوات التي كادت تسخر من الحملة، كان سماح يؤمن بأن الجدوى الأولى والأهم هي في وجودها بحدّ ذاته وفي رمزيّة أن تكون بيروت العصيّة على الهزيمة هي عاصمة مقاومة التطبيع. كما كان سماح يدرك أنّ العمل الصادق والدؤوب هو الأساس، فتراه يتابع ويستفسر ويبحث عن كلّ ما له صلة بالتطبيع، ليشهره ويحاربه بالرسائل والمقالات والندوات. وفي كل ذلك، كان يؤكّد على موقف المثقّف الملتزم بقضايا شعبه وثباته على المبادئ في زمن بيع المواقف وشراء الولاءات.
مرّ سماح على هذه الحياة وعلينا مروراً سريعاً، لكنّه عميق. لقد فتح عينيه على حب فلسطين وحب لغتها. وحين تزاحم الحبّان في قلبه، أمضى عمره متنقلاً بين الاثنين: بين اللغة العربية وبين القضية العربية حتى استحالتا واحداً، وصارت لغته فلسطين فلم يجد حريته إلّا في صداها، ولم يكن الكتاب الذي بقي يهتز بين يديه على فراش الموت سوى قرين الحرية.
وبعد، نودّع سماح وما زال صوته حاضراً بيننا وضحكته تنتظر مواعيدنا، وبعض ما بدأه ما زال الرفاق يعملون عليه والبعض سافر وغداً يعود…و لعله لحكمة في غيب الأقدار أنّ للطرق مفتاحاً وأنّ لها مسالك، مفتاح طريق سماح كانت فلسطين ومسالكها ما تركه لكثر ممن عرفوه وأحبّوه.