«دخل الإسرائيليون بيروت في مثل هذه الأيام وصاروا تحت منزلنا. احتارت أمّي عايدة وأنا ما نفعل. فالرفوف مليئة بكتب عبد الناصر وغسان ورئيف وأبي نزار مروّة والجبهة ولينين وساطع و«مركز دراسات الوحدة العربية» و«الآداب». بدأتُ بجمع «الأخطر». بعد دقيقتين، اكتشفنا أنّ مكتبتنا هي نحن. أبي سهيل بقي مبتسماً كأنه يقول «هذه المكتبة لن تقدر عليها يا ابني، ولن يقدروا (الإسرائيليون) عليها». أعدنا كل شيء إلى الرفّ، ولم أُنزلْ صورةَ وديع حداد من فوق سريري».منذ نعومة أظفاره، قبِل سماح إدريس (1961 ـــ 2021) التحدي، وإذ صدَقَت نبوءة الأب في انكسار الغزاة في قلب بيروت ورحيلهم عنها سريعاً، إلاّ أنّ الشاب الطموح الذي نال الدكتوراه من «جامعة كولومبيا» في نيويورك في دراسات الشرق الأوسط، والماجستير من «الجامعة الأميركية في بيروت» في الأدب العربي، والبكالوريوس من الجامعة نفسها في الاقتصاد أثبت أنّه «ابن أبيه» في رئاسة تحرير مجلة «الآداب» (منذ عام 1992) التي أسسها أبوه الأديب الراحل سهيل إدريس عام 1953، وفي الحفاظ على رؤيتها التحررية والملتزمة. إذ لم تغب فلسطين عن عدد واحد من «الآداب» تحت إشراف إدريس الابن، هي التي ــ منذ تأسيسها ــــ تبنّت على المستوى الأدبي خطاباً جمع مثقفي اليسار ومثقفي الاتجاهات العروبية، وهو خطاب النضال من خلال الكلمة أو الأدب الملتزم كما عبّر عنه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (الذي للمفارقة لم يلتزم بالقضية الفلسطينية). اتخذ هذا الالتزام العربي صورة دخول مباشر للأدب في ساحة السياسة والحرب والقضايا القومية المصيرية وفي طليعتها نكبة فلسطين التي كانت ركيزة القضايا الملتزمة. هكذا، صارت «الآداب» منبراً لتعبئة الشعور القومي عبر الأدب والكلمة الأمضى من الرصاصة. ظهر على صفحاتها روّاد حداثة بيروت ونهضتها في خمسينات القرن الماضي أهمهم: بدر شاكر السياب، نزار قباني، خليل حاوي، عبد الوهاب البياتي، سعدي يوسف، محمد الفيتوري، بلند الحيدري، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، ليليهم جيل الستينيات من محمود درويش، وسميح القاسم، وحسب الشيخ جعفر، وعز الدين المناصرة، وممدوح عدوان، وأمل دنقل، ومحمد علي شمس الدين وغيرهم.
وعلى سماح إدريس صعوبة المهمة الموكلة إليه في «الآداب»، بخاصة بعد دخول بيروت عصر «الردّة» وملوك الطوائف، وخروجها من الحرب مثخنةً بالجراح، فسعى إلى إيجاد توازن بين المادة النقدية الأدبية والثقافية مقابل ترسانة من الأدب السياسي والإيديولوجي الفكري. منذ 2008، عكف فوق صفحات مجلة «الآداب» على إعداد ملف في عدة أجزاء اسمه «تقويم الإنتاج الثقافي العربي» انتقى في حينه مجموعة إنتاجات أدبية. وكلّفت المجلة نقّاداً أدبيين رفيعي المستوى لتناول هذه الأعمال نقداً وتشريحاً وتفكيكاً، فكان أن لخّص التجربة في إحدى مقابلاته: «لم أستطع أن أجد خمسة نقّاد يستطيعون أن يتناولوا النتاج الأدبي الثقافي العربي وأن يقدّموا نقداً حقيقياً. هناك ضعف في الإنتاج النقدي، وهذا لا ينطبق على النتاج الفكري والسياسي العربي. أعتقد أن الفكر والنقد السياسي متطوّر بمراحل عن النقد الأدبي العربي في المرحلة الحالية، ربما بسبب تراجع الجامعات العربية وعدم ترجمة النظريات الأدبية الحديثة وانتشار الثقافة السياسية عبر الإعلام. هناك وعي فكري وسياسي متطور عن الوعي النقدي الأدبي».
ولأنّ المجلة كانت منبراً لاكتشاف الشعراء الروّاد، فقد واجه رئيس تحرير «الآداب» أيضاً إشكالية تراجع المشهد الشعري العربي منذ بداية الحرب الأهلية، ثم سيطرة رأس المال والطائفية على الثقافة، فكان أن بادر إلى تخصيص محاور شعرية وتكليف شعراء ونقّادِ شعرٍ بالكتابة عن الشعر في المجلّة. كما برز الدور المؤثر لسماح إدريس في «دار الآداب» التي مثُلت الجناح المتمّم للمجلة منذ انشائها عام 1956، وقد عنت بإصدار أمهات الكتب التي تخصّ الأدب والمسرح والكتب المترجمة والدراسات الأدبية والنقدية، وقد أفرد سماح إدريس على صفحات «الأخبار» نقداً ثقافياً يكاد يكون الأول من نوعه لمؤسسة «عائلية» تعنى بإنتاج الثقافة والفكر (ملحق «كلمات» ـ 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014): «أحد أسباب بقاء دارنا على قيْد الحياة أثناء الحرب أنّها لم تكن «مؤسّسة» بالدلالات العلمية المألوفة، وإنّما فرداً من أفراد هذه العائلة: تأكلُ ممّا يأكلون، وتشربُ ممّا يشربون، وتنامُ في أسرّتهم، وتتدحرج معهم إلى الملجأ، وتغادر البلدَ حين يغادرون. وكان سهيل وعايدة يستقبلان عمّالَ المطبعة والكتّاب بين عامي 1975 و1981 في بيتنا في منطقة «الطريق الجديدة»، بعدما تعذّر ذهابُهما إلى المطبعة أو المكتب الكائنيْن بين الخندق الغميق والعازاريّة»، وليكشف أسراراً تتعلق بالذائقة الأدبية وتغليب نوع على آخر سواء في المجلة أو الدار: «وسأقول إنّ هوى أفراد العائلة طغى أحياناً على حاجات الثقافة والنشر ورغبات القرّاء المتنوّعة. فقد غلب الهمُّ الفكري والسياسي على مجلة «الآداب» بسبب طغيانه على عقل رئيس تحريرها (أنا)، على حساب الأدب. وغلب الجنسُ الروائي على مجمل إصدارات الدار بسبب الهوى الروائي لدى مديرةِ الدار، على حساب الشعر والمسرح والقصّة القصيرة والسياسة والفكر وكتبِ الأطفال والناشئة، والأمران مؤسفان حقّاً: فالمجلة في عهد سهيل إدريس كانت رائدةً في نشر الشعر الحديث مثلاً. أمّا الدار، فكانت رائدة في نشر الكتب السياسية والفكرية (سارتر، دوبريه، دو بوفوار، اسحاق دويتشر، ماركوزه، رايش...) وواكبت الثورةَ الجزائرية والمدَّ القومي والمقاومة الفلسطينية. المجلة (بشخصي) برّرتْ سياستها بالقول إنّ ما «يصلُها» من الشعر قليلٌ وضعيفُ الجودة؛ لكنّ هذا المنطق يصطدم بمنطق «الاكتشاف»، إذ ينبغي للمنبر الثقافي ألّا يكتفي بنشرِ «ما يصلُه» بل أن يبادرَ إلى تخصيص محاور شعرية وإلى تكليف شعراء ونقّادِ شعرٍ بالكتابة عن الشعر (وهذا ما فعلتُه في سنوات عملي الأولى في المجلة ثم تراجعتُ عنه لهوسي بالهمّ الوطني والقومي)».
وعى صعوبة المهمة الموكلة إليه في «الآداب»، بخاصة بعد دخول بيروت زمن «الردّة» وملوك الطوائف، وخروجها من الحرب مثخنةً بالجراح


«المثقف المشتبك» خاض غمار النقد الأدبي في أكثر من كتاب مثل «رئيف خوري وتراث العرب»، و«المثقف العربي والسلطة: بحث في روايات التجربة الناصرية» والترجمة في كتابي نورمان فنكلستين «إسرائيل، فلسطين، لبنان: رحلة أميركي يهودي بحثاً عن الحقيقة والعدالة» (2008) و«صناعة الهولوكوست» (2001)، إضافة إلى «عن الإمبراطورية والمقاومة» لطارق علي (2006) و«النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة» لنعوم تشومسكي (2001). أسهم مع والده بمشاركة العلّامة صبحي الصالح في تحرير «المنهل العربي الكبير» الذي وصفته الدار بأكبر وأشمل معجم عربي ـ عربي حديث؛ وهو ما يحتاج إليه كلُّ مواطن عربيّ اليوم. وسوف يسدّ عند صدوره في ثلاثة أجزاء ضخمة (8000 صفحة) نقصاً كبيراً في الميدان المعجميّ العربيّ الحديث، إذ يكاد يكون الأضخم. كذلك، تخصّص في أدب شديد الخصوصية هو أدب الناشئة بـ 14 رواية وقصة نذكر منها: «الشبّاك» (2017)، و«خلف الأبواب المغلقة» (2014) و«فلافل النازحين» (2011)، و«النصاب» (2010) و«الملجأ» (2009). وقد انطلق إدريس في خلفية كتاباته للأطفال من الإشكاليات المعقّدة التي تواجه كل من يخوض غمار «الأدب الأصعب» أي منشورات الأطفال واليافعين في العالم العربي من قبيل: أين يكمن الحاجز بين الأطفال ولغة الضاد؟ لماذا لدى الكبار فكرة مسبقة عما يجب عليه أن يكون كتاب الأطفال؟ ولماذا كما قال أدونيس يوماً: «الولد في الشرق يولدُ أباً»، فتجتاح قصص الوعظ الأخلاقية التي تكرّس السلطة البطركية كل خطاب موجّه إلى الأطفال؟ إلا أن كتابة سماح إدريس في هذا المضمار ميّزها قربها من جيل اليوم، جيل «السبابة» كما يسميه الفيلسوف الفرنسي ميشال سير، أو جيل «الآيباد» الذي يفاضل بين قراءة كتاب أو تسجيل هدف على «البلايستايشن» عبر نجمه ليونيل ميسي أو كريستيانو رونالدو. ألمح سماح إدريس في مقدمة لسلسلة قصصية من تأليفه إلى الواقع المرّ للّغة العربية حين تمارس كضغط سلطوي و«أبوي» على جيل اليوم: «هذه السلسلة تروي حكايات ولد من بيروت، بلغة تحاول أن تقترب من حديثنا اليومي، مبتعدة عن الوعظ الذي بات سمة كثير من كتب الأطفال. كما أنّ السلسلة تحاول التخفيف من الاغتراب الذي يشعرون به ويشعر به بعض الأهل حيال العربية. بدأت مغامراتي هذه بعد 12 عاماً من رئاسة تحرير مجلة «الآداب». خلال هذه الفترة، تكشّفت لي طواعية العربية، بقدر ما تجلّى أمامي تزمت بعض اللغويين الذين تعاملوا معها بوصفها كائناً محنطاً معزولاً عن الحياة اليومية والتأثيرات الخارجية، خلافاً لواقع التراث الأدبي العربي القديم نفسه».
الكاتب الملتزم الذي لا يساوم في قضايا الالتزام والمقاومة ومناهضة التطبيع، يبدي في أدب الأطفال أقصى درجات المرونة، ليثبت أن العلاقة اليوم بين «أطفال العولمة» والأدب واللغة ليست مستحيلة، حين تنتقل القراءة من منطقة الملل والإجبار وحلقات الاستظهار المدرسية الفارغة إلى منطقة المتعة والابتكار، والسماح للغة مرنة تجاري اللغات الأخرى رشاقة، في بلد مثل لبنان تتنوع فيه الأهواء والأنساق والمناهج التعليمية، أن توازن بين العامية (يمكن ردّ الكثير من مفرداتها إلى الفصحى بدون كثير عناء) وفصحى ميسّرة. هكذا، لا يشعر الناشئة ببون شاسع بين اللغة التي يفكّرون ويتعاملون بها في حياتهم اليومية، وأخرى يُلزمون باتباعها في دروس الأدب والجغرافيا والتاريخ، وبطرائق تعليم قديمة لا تستفيد من الثورة الرقمية لإيصال مفاهيمها المُحكمة التي لا يعوزها التعقيد بطريقة سلسة وسائلة. وقد وضع إدريس الإصبع على الجرح حين أشار إلى الأساليب الخشبية في ممارسة «سلطة المعلّم» وعدم تطويع اللغة التي تحتمل في تضاعيفها، مرونةً أسلوبية وسهولة اشتقاقات مهولة، لتكون ضمن عدّة التواصل والمعرفة للناشئة.
وضع إدريس التواصل مع هذا الجيل ومخاطبته بلغته هدفاً رئيساً، إضافة إلى تطوير المخزون اللغوي للطفل بطريقة أنيقة وبعيدة عن كل ما هو منفر وشاذ وغريب، فتواصل معهم في فترة الحجر من وباء كورونا وروى لهم قصصه عبر اليوتيوب رادماً الهوة بين الاستماع إلى القصة وقراءتها، واصفاً التجربة كما يلي: «فكرت في التسجيل قبل حظر التجول وتحديداً منذ بداية توقف الدراسة، وسبق وأن فعلت هذا بشكل خاص ولكن بالصوت فقط لأحد المستشفيات التي يتعالج به أطفالٌ مرضى بالسرطان، فأنا أحاول تثقيف الأطفال»، ليُفاجأ أن الأطفال لم يكتفوا بقصتين في الأسبوع الواحد فقط، بل بعثوا له برسائل على يوتيوب وحسابه الشخصي على فايسبوك والواتساب، متضمنة مطالبهم وعائلاتهم بقصص أكثر، عبر الرسائل الصوتية التي تبدأ جميعها بـ «عمّو سماح نريد قصص زيادة وأحببناها كثيراً».
من آخر ما كتبه سماح إدريس على صفحته على الفايسبوك: «كان زملائي في المدرسة والجامعة يعرفون ولعي بالعربيّة منذ كنتُ في السادسة عشرة. مرّةً، كتبتُ بياناً سرّيّاً من دون توقيع (بعيْد الاجتياح الإسرائيليّ صيفَ عام 1982)، وتعمّدتُ ارتكابَ أخطاء لغويّة، وأسقطتُ الشدّات أو وضعتُها في المكان الخطأ. قضيتُ الليلَ كلّه وأنا أتمزّق بين الخوف من الملاحقة الأمنيّة (سلطة أمين الجميّل)، وتأنيبِ ضميري اللغوي». يصعب وداع تلك الروح التي تغنّي للمدينة وأطفالها وتناضل وتقاتل وتشتبك: برحيل سماح إدريس يتجرأ الموت على مدينتنا بأكبر من خطأ لغوي: إنه قتل متعمد لزاوية من أحلامنا وثقافتنا ونضالنا، لعلّها الأجمل.

شُيِّع الراحل أمس في «جامع الخاشقجي»، على أن تقبل التعازي اليوم وغداً في «جمعية خرّيجي الجامعة الأميركية» في بيروت (AUB-ALUMNI) بدءاً من العاشرة صباحاً حتى الواحدة ظهراً، ومن الثالثة حتى السادسة بعد الظهر.