القاهرة | ودّعت الثقافة المصرية رجلاً نادراً من فرط عشقه لمصر، ولأمته العربية. أطلق على أولاده أسماء مناضلين رسموا تاريخها. حمل ابنه الاكبر اسم محمد فريد، وحمل الثاني اسم أحمد عرابي، ونالت ابنته لقب المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد. إنه المناضل والمترجم سعد زهران الذي تلقى فيه المثقفون المصريون العزاء أخيراً في «مسجد عمر مكرم» من قلب ميدان التحرير.
أثناء «ثورة 25 يناير»، جاء إلى الميدان في ظهور نادر بعدما اضطرته حالته الصحية إلى الانقطاع عن طقسه اليومي في «مقهى الحرية»، حيث اعتاد لقاء تلاميذه من أجيال مختلفة. ما يميز سعد زهران (1926) عن مجايليه من اليساريين المصريين أنه وضع مسافة بين إنتاجه الفكري والماركسية التقليدية التي كان ينعتها دائماً بالماركسية السلفية، في إشارة إلى مخاطر الالتزام الحرفي بالنصوص، وهو ما ينتج دائماً عقليات مغلقة ظل طوال حياته مناوئاً لها.
لمع سعد زهران خلال مشاركته في انتفاضة 1946 الطلابية. كان قيادياً في اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال التي قادت الحراك الطلابي الأقوى قبل اندلاع «ثورة 1952». وكان من أوائل الشيوعيين الذين قادوا التمرد على الجسم الرئيسي للحركة الشيوعية المعروف باسم «حدتو»، وشكل مع المتمردين تنظيم «التكتل الثوري» (1949) الذي سرعان ما أعلن تشكيل الحزب الشيوعي المصري (الراية)، وضم إلى جواره ألمع منظري اليسار المصري من أمثال شهدي عطية الشافعي وأنور عبد الملك وفؤاد مرسي ومصطفى طيبة. اللافت أن زهران كان من أوائل من اتخذوا موقفاً نقدياً من الناصرية، حتى إنه كان يصف «يوليو 1952» بـ«النكبة»، ولم يتراجع حتى خلال فترة اعتقاله مع الكوادر الشيوعية عام 1959. في المعتقل، كتب مساهمته النظرية الأولى التي أبرزت قدراته الفكرية، وكانت بعنوان: «التعاليم الليبرالية في الثورة العرابية». وكانت هذه المحاولة المبكرة للبدء بتأمل تاريخ مصر، مستكملاً بذلك الجهد الذي بدأه شهدي عطية في كتابه «تطور الحركة الوطنية المصرية». في هذا المقال، أظهر زهران القيم الليبرالية التي بلورتها ثورة عرابي، وهي فكرة طوّرها رفيق نضاله أنور عبد الملك في كتابه ذائع الصيت «نهضة مصر».

لمّح باكراً إلى
مخاطر البترودولار والدين الذي استخدمه النظام السعودي

لكن قيمة ما طرحه زهران أنه تساءل باكراً عن قيمة الديموقراطية وأهميتها اجتماعياً، وعدم أهميتها على الصعيد السياسي، وبالتالي كان مقاله رداً ضمنياً على دعاوى احتقار الديموقراطية، كما يشير الى ذلك نجله فريد زهران نائب رئيس «الحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي» في المقدمة التي وضعها للأعمال الكاملة لوالده التي صدرت عام 2009، وصاغ فيها «بورتريهاً» جامعاً لكل منجزه السياسي.
ومع تفاقم مشكلات وضعه في مصر بسبب آرائه، مكّنه صديقه الأخضر الإبراهيمي الذي كان سفيراً للجزائر في القاهرة، من الحصول على فرصة للعمل في الجزائر مدرساً للعلوم السياسية في إحدى جامعاتها. وكتب هناك كتابه «الأوردي... مذكرات سجين» نشر في بيروت للمرة الأولى عام 2004 (المركز الثقافي العربي ) بعد أكثر من 40 عاماً على كتابته. في هذا الكتاب تحفّظ زهران على وضعه ضمن نصوص أدب السجون، خوفاً من أن ينحدر بالمأساة الإنسانية الحضارية التي تتجسد في معسكرات التعذيب إلى مستوى السلعة التي تباع وتشرى في سوق المضاربات السياسية. وفي السنوات الاخيرة لمنفاه الجزائري، نشر زهران كتاب «في أصول السياسة المصرية» الذي وضع فيه نظرية لتأمل طبيعة الصراع في مصر في ما أطلق عليه مثلث السلطة (القصر والأعيان والإمبراطورية التي تحكم المنطقة)، وشدد على أن هذا التوازن اضطرب مع ظهور الطبقة الوسطى التي حاولت منذ الثلاثينيات تربيع قوى الصراع. لكن أخطر ما أثارته أفكار زهران ارتبط ببحثه الشهير «التقدمية كمهنة»، الذي انطوى على نقد ذاتي لتجربته ولتجربة اليسار المصري. إذْ لاحظ أن أغلب السياسيين كانوا ينظرون إلى العمل السياسي بمنطق الجدوى الاقتصادية، بمعنى أنّ الممارسة السياسية تُقاس بحجم ما تحرزه من مكاسب، وفي ذلك انتقاد لنموذج المحترف الثوري الذي شاع في التنظيمات اليسارية، واعتبره زهران مدخلاً لإفساد قيادات الحركة. ولمّح باكراً إلى مخاطر البترودولار والدين الذي استخدمه النظام السعودي كقوى مناهضة للناصرية.
وأكثر ما يلفت في سيرة زهران، التفاته المبكر إلى قيمة الترجمة. ورغم خلفيته السياسية، إلا أنه كرس أغلب جهده لترجمة نصوص أدبية كانت السياسة والتناقضات الاجتماعية فضاءً لها مثل «عناقيد الغضب» لجون شتاينبيك. وبالإضافة إلى الأدب، ترجم كتاب «أن نكون أو نتملك» لإريك فروم، وكتاب «بناء حضارة جديدة» لعالم المستقبليات ألفن توفلر. وفي كل هذه الأعمال، أراد أن يكون مجدداً يضمن للعقل العربي فرصاً للحوار مع المنجز الحضاري الغربي ولو من باب التحريض.