«ارتمى الفصلُ في مطلع الصباح/ والنجمةُ المطاطة ثقبتِ السماء/ البحرُ غارقٌ في حطام سفينة». (إيتيل عدنان ـــ «كتاب الموت»)

أبحثُ عن إيتيل عدنان. هنا والآن. في مدينة تبحثُ عن نفسها. لا تكفي الكلماتُ والألوان. لا بدّ لي من أن ألمسَ بيديَّ المرأةَ الشفّافة التي تحوم دائماً في مكان قريب. المسافرة، المترحّلة، الغريبة عن الأوطان، ربيبةَ المنفى الحميم، منفى الداخل. أسمعُ صوتها الأليف، وأقول لا بدّ من أن أجدها يوماً.
«هل سبق لكِ أن حاولتِ ارتقاء الهواء بكل الوسائل المتاحة؟ الملائكةُ تفعل ذلك، اعتماداً على اسمائها، وتساعدها في ذلك الحرارة (...) إنّها تفوقنا عدداً، هنا بالذات، حضورها يبعث على الاختناق، هذا ما لم نتحدّثْ عنه أبداً. هل فعلنا؟ ولمَ؟ ومن يدري؟» (هناك).
أبحثُ عن إيتيل بين تركيا واليونان، سورية ولبنان. بين خمسينيات بيروت، وستينيات باريس، وسبعينيات كاليفورنيا. بين الحرب الأهليّة، والاجتياح الإسرائيلي، وحرب تمّوز. بين العصر الذهبي وزمن الانحطاط. أبحث عنها بين إيتيل وإيتيل. بين مشاغلَ سياسيّة ونصّ حميم. بين قصائد ودفاتر يابانيّة ولوحات ورسائل، بين رواية ومسرحيّة، بين تصويريّةٍ وتجريد، فلسفةٍ وشعر، مسيحيّةٍ وإسلام. أبحث عن المرأة التي صارت «صديقةً للماء»، وجارةً لجبل TAMALPAIS. أبحث عن أغنية ضاعت، «في جوار الحب»، «في انكسار النور»، في «خرير جدول».
نعم إيتيل عدنان. العابرةُ بنعال من ريح، كما قال فيرلين مرّة عن عشيقه رامبو. تحكي قليلاً وتغيب. تنتظر الوحيَ، تلك اللحظةَ السحريّة حين تأتي الكلمات، فتروحُ ترصُفها من دون وعيٍ على الورق. إيتيل بين حلم ويقظة.
«رأيت حلماً عن مجرى بين جَهنّمَ والجنّة: عندما يكون أحدُنا سيداً يتدفّق مجرى النهرِ هذا صعوداً، وعندما يكون التدفّقُ عقيماً فالمجرى نزولٌ إلى الجحيم. لكنْ، أحياناً، يسبح واحدُنا في اتجاه معاكس للتيار، فيذهبُ النهر إلى الجنّة، والسابحُ إلى القاع. تلك هي عمليّة الخلق» (تملباييس).
منذ زمن وأنا أبحث عن إيتيل عدنان. اقتفي أثرها، من خلال علامات منسيّة، تنثرها وراءها، هنا وهناك، على طريقي. كبرتُ، والطريق طالت، وأنا أبحث عن هذه الجنيّة في نص يحكي عن الحروب، والرحيل الدائم، والحبّ الخافت، والناس الغاضبين.
«أين كنتَ عندما نشبتِ الحرب، الحربُ الواحدة والحروب العديدة، لتحيلَ شعوباً كاملة إلى صفوفٍ طويلةٍ من الخراف؟» (هناك).
أبحث بين بوب ويلسون وزاد ملتقى، بين جنين وبغداد. بين ماء وزيت، وسَجاد وخزف، بين الإمبراطوريّة العثمانيّة وأرخبيلات العولمة، بين المرأة والمرأة. بين «ميترو باستيّ» ونهر «الكولورادو». بين الفيتنام والجزائر. بين ديونيزوس وسافو، بول كلي وبدر شاكر السيّاب. بين قسوةٍ وسذاجة. فرنسيّةٍ وإنكليزيّة. بين اتّساع اللّون وضيق العبارة. بين الحاضر والحاضر. بين بيوت تحترق و«هذه السماء الغائبة». بين حبّ وحبّ، أملٍ وخيبة، غربةٍ وغربة، يأسٍ ونضال، بين «باريس عندما تتعرّى» وبيروت إذ تفتح «كتابَ البحر».
«أوَدُّ أن يكون الفردوسُ مكاناً أستطيع أن أذهبَ إليه وأكلّم بول كلي. معاً سننظر إلى دوائر، ونرى فيها نُقطاً. وفي تلك النُقطِ سنكتشف أكواناً. وسنزور فيها كلَّ البيوتِ التي رسمَها» (تملباييس).
بلى إنّها هي. عرِفتها من الصورة. لم أرَها إلا بذلك الشعر القصير، الأبيض. يذكّرني ببيروتَ السبعينيات، بمدنٍ لم أعرفْها إلا عن طريق الأخبار والشائعات. بلهجةٍ لم أسمعْها من قبل. أبحثُ عن إيتيل عدنان بين «الكتابة بلغة أجنبيّة» والرسم بالعربيّة. بين لغة لها تحملها في الأعماق طلاسمَ وإشارات، ولغةٍ غريبة استوطنتها ورسمتْ بها طلاسمَ أخرى وإشارات.
«أنتِ ملاكٌ ميت/ ممدّد في جسدي،/ طينٌ عائد إلى الطين/ مطرُ شتاء في عظامي يقيم/ بقايا سفينةٍ/ نسيَها البحر،/ شمسٌ مطفأةٌ/ تقيّأها فم طفل،/ أنت ملاكٌ ميت/ ممدّدٌ في جسدي/ (...) أنتِ امرأةٌ،/ فوق صدريَ العاري،/ بلا حياة». (كتاب الموت).
أبحثُ بين بوذا ومارلين مونرو، بين الحوادثِ العابرة وزلازلِ التاريخ.
«جنح نهرُ كولومبيا عن مساره/ كنا نمارس الحبَّ فوق الأريكة/ دخل الرجل العنكبوت من النافذة/ رنّ جرسُ الهاتف/ وتفرّجنا على التلفزيون» (نيويورك).
أبحث بين القدر والمصادفة، بين الأبوكاليبس وملذات الحياة الصغيرة، بين الإحساس والفكرة، بين الجسد والمدينة، بين بناية «الست ماري روز» ومخيّم تل الزعتر.
«كنتُ أستطيع أن أذهبَ إلى المقهى المجاور/ أتأمّلُ البرد وهو ينسلّ في الخارج/ فيما أتنعّم بالدفءِ، أو حتّى بممارسةِ الحبّ.../ بيد أن القنابلَ كانت تنهمرُ على بغداد» (يوم 27 أكتوبر 2003).
أبحثُ بين «سفر القيامة العربي» و«الهنديّ الذي لم يمتلك حصاناً في حياته».
«للهربِ من ثقب الهواء/ الذي أحدثته قنبلةٌ في إحدى/ ضواحي بغداد أعيد قراءة/ كلمات السيّاب» (الجمعة 25 مارس في الرابعة بعض الظهر).
أبحث بين لوحة لإيتيل عدنان ولوحة لسيمون فتّال، بين قلب وقلب، بلد و«بلد آخر»، طفولة وكهولة... بين الهويّة والتاريخ، المدنيّة والطبيعة، «مقهى الإكسبريس» وما تبقّى لنا من أرصفة. بين سركون بولص وخالد النجّار، بين همس وصراخ، رقّة وغضب، بين الذات والواقع، بين المستتر والملموس، بين المجاز والمعنى، بين اللغة/ الأم والوطن/ المنفى.
«هذا المساء سأنام مبكّراً يا أصدقائي/ لأن الظلمةَ تكاثفت كثيراً. وسأحاول/ ألا تجرفُني الفيضانات/ كما اعتدتُ أن أراني في الأحلام/ وسأحاولُ ألا أضيّعُ المفتاح/ وأن أنام مثلما ينام الأطفال/ كما أظن». (يوم 27 أكتوبر)
أبحث عن إيتيل عدنان. بين ميّ مظفّر وأمل ديبو، جيروم شاهين وفايز ملص، فوّاز طرابلسي وعابد عازريّة. بين «27 أكتوبر 2003» و«الجمعة 25 مارس في الرابعة بعد الظهر». بين ذلك البيت العائلي القديم في بيروت وبلاد الله الواسعة. بين رثاء عالم يتفتّت وتمجيدٍ طفوليّ للحياة.
«... ورفض الليلُ أن يمطر على رؤوس الخراف، ورأينا البرقَ يختلط بالغيوم التي تضخّمت دماً ودموعاً، وراحتِ المادة تتحدّثُ مباشرة إلى الموتى الذين توقّفوا عن الإصغاء. أما الشعوب، فكانت قد فقدت صوتها، ومشينا على الشوك والقرّيص، واستنفدتْ عيونُنا مفرداتِ الظلام. وعندها نزل، بعد المطر، ملاك لم يتمكّن أحد من إيجاد اسم لهُ. راح يحصي الجراحَ لدى بعضهم، وعمليّاتِ البتر التي أجريت بسكاكين المطبخ لدى البعض الآخر، ودوّن الملاكُ كلّ شيءٍ في كتابٍ من الذهب والوحل (...)» (جنين).
أبحث عنها بين «يوم في نيويورك» وآخرَ في بيروت. في كتابة تكثّفت حتّى شفّت عنها اللغة. أبحث عن صبيّة تقف على الشاطئ، تخاطبُ الموجَ في مدينة بعيدة كأنها بيروت. عن اللغة الأنثى التي تحميها طوباويّة الشباب من معتقلات التكريس وتحنيط الريادة. أبحثُ عن قِصصٍ كثيرة لم تروِها لنا المرأةُ التي عَرِفتِ الامتلاء.
«تتحدثين عن الشعر، كما يفعلون في بلاد العرب أحياناً مع جواسيسَ سريّين. إن لم تكنِ الكلماتُ في الشوارع فهي بائدة، قلتِ لي هذا وأصغيتُ إليكِ، بينما كانتِ البراءةُ متاحةً لنا» (هناك).
لكن مهلاً، يبدو أننا سنبحثُ طويلاً. هل نجدُها خارجَ بيروت؟ هل نجدُ بيروت خارج القصيدة؟ قصيدة إيتيل عدنان.
«... وتتمدّد ظلالي/ فوق جسدي عندما ينام،/ وتكفّ السماءُ عن أن تكونَ زرقاء/ والضوءُ ينتظر» (27 أكتوبر).
وحده الشعر قادر على تكثيف تلك الحيوات المعقّدة، والمشاعر الملتبسة. نحنُ، مواطني السراب، نحتفي هنا/ الآن بالشاعرة التي رأت.
«لو قلتُ لكِ أحبّكِ/ فهل تعتقدين أن الطائرات/ ستحلّق/ ليلاً؟» (نيويورك).
نحتضنُ هذه الشاهدة الصامتة على انهيار العالم، وامحاء المدينة. نعانق طيفَها الهارب. ألم تقل لنا إيتيل ـــ طوال حياتها ـــ إننا بالشعر، وبالشعر وحده، نعيد ترميم العالم؟

(*) ألقيت هذه الشهادة ضمن تظاهرة تكريميّة أقامتها نضال الأشقر في «مسرح المدينة» ــ بيروت، بين 13 و16 أيار (مايو) 2010.

الاقتباسات في النص مستقاة من كتب إيتيل عدنان الآتية:
- كتاب البحر، كتاب الليل، كتاب الموت، كتاب النهاية/ ترجمة عابد عازريّة، دار أمواج، بيروت 1994
- هناك ـــ في ضياء وظلمة النفس والآخر/ ترجمة سركون بولص، دار الجمل، كولونيا 2000
- يوم 27 تشرين الأوّل 2003 (بالفرنسية والعربيّة)/ ترجمة خالد النجّار، جبل التوباد، تونس 2004
- يوم في نيويورك (بالفرنسية والعربيّة)/ ترجمة خالد النجّار، جبل التوباد، تونس 2006
- الجمعة 25 آذار في الرابعة بعد الظهر (بالفرنسية والعربيّة)/ ترجمة خالد النجّار، جبل التوباد، تونس 2007
- رحلة إلى جبل تملباييس - (مع 34 لوحة)/ ترجمة أمل ديبو Amers Editions، بيروت 2007