لعلّ زهير رمضان (1959 ــ 2021) كان يعرف جيداً أنّ كل خلاف أو حتى عداوة معه، مهما اشتدّت حدّتها سُدّدت فاتورتها سلفاً وستذهب أدراج الرياح بشفاعة إحدى أيقونات السينما السورية التي أدّى من خلالها دوراً جوهرياً أيّام شبابه. الحديث هنا عن شخصيته في فيلم «رسائل شفهية» (عبد اللطيف عبد الحميد). حينها، وزّع رمضان ضحكاً على كلّ مشاهديه بمن فيهم زملاؤه لعمرٍ كاملٍ، ولم يعد يعنيه أي إشكال معهم، لأنّه سلّفهم من الفرح ما يكفي ليخوض في مقابله لاحقاً الكثير من الخصومات عسى الكفة تعتدل.هكذا، كان الرجل واضحاً بصداقاته وجليّاً بخلافاته. يخوضها علناً وبالطريقة نفسها التي يُدلي بها بتصريحاته، ولو كانت في غاية التطرّف والحدّة. هو سيقولها كلّها دفعة واحدة من دون أن يرفّ له جفن أو يخشى الملامة. مع أمثال هذا الرجل، يعتقد كثيرون أنّ الحياة تحلو فعلاً ويأخذ الخلاف شكلاً حيوياً رشيقاً، يعطي مفاصل اليوم الرتيب إيقاعاً متمايزاً.

انتهت الجولة الأخيرة قبل أن ينقضي ليل أوّل من أمس الأربعاء. هكذا، ترجّل زهير رمضان بإجماع مطلق على زفّته بالدعاء والرضا والتسليم، فيما بدا الحزن ظاهراً على ألدّ خصومه قبل أصدقائه. الفايسبوك السوري كلّه ينعي الرجل. الجمل جميعها تودّع نقيب فناني سوريا، من دون أن يذكر أحد أنّه من الدهاة الذين خطّطوا وخاضوا جولات انتخابية حامية. ترك مكانه فارغاً إلى الأبد، وهو الذي أنهى تصوير أشهر مسلسلاته بقوله كنوع من التهكّم المستمد من الشخصية: «لا نعرف كيف يمكن للحياة أن تستمر من دون ختم».
الممثل السوري الذي تخرّج من «المعهد العالي للفنون المسرحية» في دفعاته الأولى (1983)، حجز سريعاً مكانه في الدراما التلفزيونية السورية منذ سنوات تأسيسها، وخلق علامات فارقة في السينما السورية من بينها كما ذكرنا «رسائل شفهية» و«ليالي ابن آوى» (لعبد اللطيف عبد الحميد) وغيرهما، في حين جسّد أدواراً متباينة في أكثر من 100 مسلسل تلفزيوني. تخلّد منها دورَاه المعروفَان: رئيس المخفر «أبو جودت» في سلسلة «باب الحارة» (بسام الملا) و«المختار البيسة» أو «مختار أم الطنافس» في مسلسل «ضيعة ضايعة» (ممدوح حمادة والليث حجو). صنع الدوران جماهيرية واسعة وأفسحا له طريقاً معبّدة إلى قلوب جمهور الشاشة الصغيرة. علماً بأنّ رمضان اقترح أثناء أداء شخصية رئيس المخفر في العمل الشامي حلّاً درامياً بارعاً، عندما راح يحاكم الشخصية أخلاقياً عبر أدائه لها بصيغة الكاركتير المبالغ فيه. كذلك، أحكم القبض على شخصية «المختار» كاسياً هيئتها البرّانية والجوانية بنكهة خاصة ظلّت ميزة العمل، إلى جانب ملامحه العديدة التي حوّلته إلى إحدى الكلاسيكات الكوميدية الخالدة.
على خطٍ موازٍ، اختبر زهير رمضان المناصب الإدارية الثقافية والفنية منذ زمن طويل، لكن عموماً لا أحد ينكر أنّ مسيرته كان مسيجّة بالجدل دوماً. سبق له أن تسلّم منصب مدير المسارح والموسيقى في «وزارة الثقافة» وقد تداول رفاقه ومن عملوا معه في تلك الفترة تحدّيه الصريح للوزير آنذاك في وقت كانت المناصب فيه لا تزال مؤثرة جداً، ومنعه من التحدّث معه بصيغة الأمر وبأسلوب يقلّل من شأنه. كما تردّد أنه قال للوزير يومها: «تعال لننزل معاً إلى الشارع لنرى على من سيسلّم الناس، وإلى من سيهتمون ليعرف كلّ واحد قدره». بعد ذلك بسنوات، تسلّم الراحل منصب نقيب الفنانين في سوريا، وأدار النقابة بصرامة وقبضة من حديد، خلّفت سيلاً عارماً من البلبلة التي تمكّن من مجاراتها مع الاستمرار في العمل رغماً عنها. كلّنا نذكر حين اتخذ قرارات بطرد عشرات الفنانين من النقابة، من بينهم أبرز نجوم سوريا على غرار جمال سليمان وحاتم علي وتيم حسن وباسل خياط، بحجة عدم دفع الاشتراكات السنوية. ويومها، حاول أن يقطع الطريق أمام التحليلات التي تشير إلى أنّ الخطوة مبنية على خلفيات سياسية، فراح يجزّ يميناً ويساراً من دون التفريق بين موالٍ أو معارض.
وفي 2020، أعاد ترشيح نفسه في مواجهة فريق من المنافسين الشرسين، على رأسهم فادي صبيح وعارف الطويل ومحمد قنوع وتولاي هارون... ترافق ذلك مع حملة إعلامية شرسة لدرجة أنّ روّاد فايسبوك السوريين نصّبوا صبيح نقيباً قبل الانتخابات النهائية بأسابيع! مع ذلك، ظلّ رمضان هادئاً يعرف ماذا يريد، قبل أن يخوض المعركة متكئاً على خبرته في القانون الانتخابي، وألحق بخصومه هزيمة انتخابية. تربّع مجدداً على عرش النقابة مردّداً جملته الشهيرة أمام عدسات الإعلام: «من يزرع حنطة يحصدها... نحن نعمل على الأرض وليس على الفايسبوك».
سنحت الانتخابات الأخيرة الفرصة أمام الإعلام والسوشال ميديا تكريس الثنائية التي لعبها مع فادي صبيح كونهما كانا متنافسين على المنصب. فكما في «ضيعة ضايعة»، حيث سبق لـ «المختار البيسة» أن أمضى وقته في قمع «سلنغو» (صبيح) وإبعاده عن حبّ حياته «عفوفة» (رواد عليو)، راح مستخدمو السوشال ميديا يعيدون نشر مقتطفات من حوارات الشخصيّتين وصورهما، ويمعنون في نشرها أثناء المعركة الانتخابية الحامية.
على ضفّة موازية، امتلك رمضان جرأة استثنائية في الحديث، ونزعة كانت تعطيه سطوة وتجعل محدّثه يستسلم عند أوّل مبارزة بينهما. هكذا، كان صاحب صولة واضحة في أغلب لقاءاته الإعلامية التي كان يختارها بعناية، فلا يريد مناكفاً بقدر ما يبحث عن محاور سلس يترك له الفرصة للتحكّم بزمام الأمور ويقول ما لديه من دون مقاطعة.

ووري الراحل في ثرى مسقط رأسه اللاذقية أمس، فيما تُقبل التعازي اليوم الجمعة وغداً السبت وبعد غدٍ الأحد في المدينة الساحلية للرجال والنساء في «المشروع العاشر - جامع النور»، على أن يتم لاحقاً تحديد موعد ومكان التعازي في دمشق.