انتهت «مسابقة فريدريك شوبان الدولية في العزف على البيانو» بدورتها الـ18 المؤجَّلة منذ الخريف الماضي بسبب وباء كورونا. المسابقة تجعل من بولونيا وشعبها يغليان حولها، قبلها بقليل، خلالها وبعدها بقليل، وكذلك الجمهور المهتمّ بالموسيقى وناشرو الموسيقى والنقّاد وطلاب البيانو. في المقابلات مع المتبارين الآتين من جميع أنحاء العالم، نسمع كلاماً عن نبض الشارع البولوني كيف يتحوّل خلال هذه الفترة، من الأحاديث والنقاشات في المقاهي إلى البرمجة الإذاعية والتلفزيونية وغيرها من المظاهر التي تجعل من شوبان «زعيماً» مطلقاً لموطنه لأسابيع قليلة، كل خمس سنوات.
تغلي بولونيا خلال موسم المسابقة بالبرامج والنقاشات واللقاءات وغيرها من المظاهر التي تجعل شوبان «زعيماً» مطلقاً لموطنه

لـ«مسابقة شوبان» ميزة أساسية تكمن في أنّها مخصّصة لمؤلّفٍ واحد، بخلاف كل المسابقات الخاصة بالأداء الكلاسيكي، التي قد تكون مخصّصة لآلة واحدة، لكنها إمّا تكون مفتوحة على كامل الريبرتوار، أو تشمل أعمالاً لمؤلفين ثابتين وأخرى من اختيار المتبارين. مع ذلك، يخرج الفائز بـ«شوبان» مكلّلاً بجائزة تثبت قيمته في العزف على البيانو بشكل عام، لا بأداء شوبان فحسب. هكذا، نكاد لا نرى، عبر تاريخ المسابقة الممتد منذ عام 1927، فائزين لم يسجّلوا لاحقاً سوى شوبان. الأكيد أن الذين يشاركون ويفوزون بالمسابقة يسجّلون «ديسكاً» أو أكثر للمؤلف البولوني/الفرنسي، في بداية مسيرتهم أو خلالها، قبل أن ينقسموا بين مَن يجعل من شوبان محوَر مسيرته، مثل البولوني آدام هاراشييفيتش (الأول في دورة 1955) والسوفياتية تاتيانا شيبانوفا (الثانية في دورة 1980) ومَن «يغطّي» شوبان وينتقل إلى غيره، مثل الأميركي غاريك أولسن (الأول في دورة 1970) أو الروسي فلاديمير أشكينازي (الثاني في دورة 1955) ومن يقدّم مساهمة كبيرة في شوبان وفي غيره، مثل الإيطالي ماوريزيو بولّيني (الأول في دورة 1960) وأقل منه الصيني يوندي لي (الأول في دورة 2000)، وأخيراً، من يصنع مجده خارج شوبان كلياً مثل اليابانية ميتسوكو أوشيدا (الثانية في دورة 1970). بالتالي، أثبتت موسيقى شوبان أنها قادرة على تأمين جواز سفر إلى عالم البيانو عموماً، وتأشيرة دخول سهلة، بالدرجة الأولى، وأقلّه، إلى الحقبة الرومنطيقية. بين عام 1927 (الدورة الأولى) واليوم، لم تعرف المسابقة إلا تطوّراً في المستوى والانتشار وإقبال المتبارين والأهمية، وكذلك بالنسبة إلى موسيقى شوبان، عملاق البيانو الذي لم يخفت وهجه منذ أكثر من قرن ونصف قرن، ولن يخفت. الشعراء الكبار لا يموتون، المؤلفون الكبار لا يموتون. أما شاعر البيانو، فأقوى من الموت مرّتَين.
الاتحاد السوفياتي الذي شكّلت الموسيقى فيه أساس المجتمع الثوري، كان يسيطر على المسابقة


إذاً، أعلِنَت نتائج المسابقة قبل أكثر من أسبوعَين، وفاز بالمرتبة الأولى الكندي الجنسية، الصيني الأصل، الفرنسي المولد (1997)، بروس (تشياو) ليو، بعد نقاش حامٍ وطويل بين أعضاء اللجنة بفعل تعادلٍ في النقاط بين ثلاثة متبارين. تأخّرنا في العودة إلى هذا الحدث، بعد تغطيتَين مختصرتَين خلاله، لأن ثمّة معلومات وأرقاماً تخرج لاحقاً إلى العلن، وكان علينا انتظارها لتغطيةٍ أشمل وأدقّ، أبرزها العلامات التي وضعها أعضاء اللجنة في جميع المراحل وقد أعلِن عنها قبل نحو 12 يوماً (الرابع من الجاري). مراجعة لائحة العلامات التي وضعها أعضاء اللجنة تبيّن أن ليو كان مسيطراً منذ البداية، لكن ليس من دون منافسين، إذ شاركت مواهب كبيرة، بالأخص من بولونيا واليابان وإيطاليا، لكنها تعثّرت لاحقاً، أي في المرحلة الثانية أو الثالثة، في الوقت الذي تقدّم فيه بعض من نالوا علامات عادية في المرور التمهيدي والمرحلة الأولى، ما سبّب خلط أوراق أكثر من مرّة. كل المؤشرات كانت تَشي بأن الميدالية الذهبية ستذهب إلى اليابان أو بولونيا، لكن التصفيات من المرحلة الثالثة إلى المرحلة النهائية وضعت خارج المسابقة أقلّه أربعة عمالقة بكل معنى الكلمة، بعضهم نال علامات عالية جداً من بعض أعضاء اللجنة، لكن قابلتها علامات منخفضة جداً من بعض الأعضاء الآخرين، ما منح وصولاً إلى النهائيات لمواهب عادية نالت متوسّطاً كافياً للمشاركة في المرحلة الأخيرة. على سبيل المثال، شكّل خروج البولونيَّين شيمون نيرينغ وأندريه فيرشينسكي صدمةً فعلية، بعدما أُبعِدوا لمصلحة بولونيَّين آخرَين هما كميل باخوليتس (خارج التصنيف) وياكوب كوشليك (حلَّ رابعاً). من جهة اليابان، وبفعل وفرة المواهب، خرج سوغو ساوادا وهاياتو سومينو البارعان، لكن بقي كيوهاي سوريتا، الذي حلّ ثانياً في المسابقة (حلّ معه في المرتبة ذاتها السلوفيني/ الإيطالي ألكسندر غادجييف)، وكذلك مواطنته آيمي كوباياشي التي انتزعت المرتبة الرابعة بالتعادل مع البولوني ياكوب كوشليك. أما الصمود الأسطوري فكان لإسبانيا، بمشاركتها بعازف واحد فقط، هو مارتين غارثيا غارثيا الذي شاهد عشرات الزملاء الصينيين واليابانيين والأوروبيين والأميركيين يتساقطون تباعاً منذ المرحلة التمهيدية، لينال في النهاية الميدالية البرونزية (المرتبة الثالثة) ويُدخِل بلدَه، للمرة الأولى في تاريخ المسابقة، إلى نادي البلدان الفائزة بإحدى المراتب الست الأولى (راجع المقالة الخاصة بهذه النقطة).

فاز بالمرتبة الأولى الكندي الجنسية، الصيني الأصل، الفرنسي المولد (1997)، بروس (تشياو) ليو

لا شك في أن هذه الدورة من «مسابقة شوبان» اتسمت بحرارة خاصّة، بعد الكابوس الذي ضرب الكوكب. وقد تم بثّ جميع فعالياتها مباشرةً على الهواء على يوتيوب، من المقابلات إلى مرور المتبارين وإعلان النتائج، ثم الحفلات الثلاث الختامية التي يحييها الفائزون بالمراتب الثلاث الأولى. لكن الدور الإيجابي لهذا الأمر قابله واحد سلبيّ، إذ عبّر العديد من المتبارين عن تأثّرهم الكبير بالتعليقات التي كانت تنهال من متابعي المسابقة على يوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي. لكنّ المعلّقين الجدّيين (عازفون كبار ونقّاد محترمون) أذهلهم المستوى، التقني أقله، الذي تمتّع به المشاركون، وهذا يمكن ردّه إلى سببَين: الأول يتعلّق بالمناهج التي تتطوّر بشكل ثابت، وقد وصلت اليوم إلى مستوى عالٍ من الفعالية لناحية الإعداد التقني للطلاب. الثاني يتعلّق بكورونا الذي سبّب تأجيل المسابقة من السنة الماضية، ما أعطى وقتاً إضافياً للاستعداد بأفضل ظروف ممكنة. فقد احتجز الوباء المتبارين في منازلهم وخفّف عنهم الكثير من الانشغالات، مثل التعليم أو الحفلات أو التسجيل (فمعظمهم يتمتع بالمستوى الذي يسمح له بإحياء أمسيات بيانو محترفة، وبعضهم لديه حتى تسجيلات عند ناشرين مهمّين)، ما وفّر لهم ساعات تمرين طويلة غير متاحة في الأوضاع «الطبيعية». لكن ما لا نعرفه بعد، ما إذا كانت الدورة المقبلة ستقام عام 2025 للحفاظ على لعبة الـ0 والـ5 المستمرّة منذ عام 1955، أو سيتمّ احترام مسافة الخمس سنوات الفاصلة بين دورتَين، لتقام بالتالي عام 2026… إلاّ إذا!


اختيار الماركة
بعد التصفيات الأولى التي تجريها لجنة خاصّة بعيداً عن الأضواء لمئات المتقدّمين إلى «مسابقة شوبان»، ثم بعد المرور التمهيدي لنحو 150 متبارياً، واختيار الـ87 الذين سيتنافسون رسمياً، يضَع المنظّمون خمسة بيانوهات في تصرّف المتبارين وربع ساعة من الوقت لاختيار الآلة التي سيعزفون عليها طوال المسابقة (من دون إمكانية استبدالها لاحقاً). الماركات هي: «شتاينواي» الألمانية (آلتان)، «فازيولي» الإيطالية (آلة واحدة)، «ياماها» اليابانية (آلة واحدة) و«كاواي» أيضاً اليابانية (آلة واحدة). 64 اختاروا العزف على «شتاينواي« (نحو 75% من المتبارين الـ87)، تسعة اختاروا الـ «ياماها» وثمانية فضّلوا الـ «فازيولي»، في حين فضّل ستة عازفين فقط الـ«كاواي». هكذا، شاهدنا مرور المتبارين واستبدال الآلات الضخمة بسلاسة عندما لا يصدف توالي عازفين اختاروا الآلة ذاتها. لكن المنظر الأجمل كان في النهائيات، حيث مفروضٌ على المتبارين أداء كونشرتو لشوبان (الأول أو الثاني)، ما يحتّم وجود أوركسترا سمفونية تتوسّطها آلة البيانو من جهة الجمهور. هنا الحل إما بـ«فتح الطريق» لآلة طولها أقل من ثلاثة أمتار بقليل لتشقّ طريقها بين موسيقيي الأوركسترا إلى الكواليس، وإما… بفتح المسرح تحت البيانو، ليبتلع آلة أنهت للتّوّ مهمّتها ويبعث بالتالية «المطلوبة على المسرح» والمركونة في «موقف البيانوهات» أسفل خشبة المسرح.
تجدر الإشارة إلى أن الفائز بالميدالية الذهبية، بروس (تشياو) ليو، اختار آلة الصانع الإيطالي «فازيولي»، وهي ماركة دخلت السوق حديثاً نسبياً (1981)، لكن بجودة تنافس أعرق الصانعين. بالتالي، يعطي فوز العازف الكندي بـ«مسابقة شوبان» دفعاً كبيراً لها في هذا المجال. إنه نوع من الدعاية القوية بالمعنى التسويقي، لكن هنا، هامش النفاق الملتصق بمجال الإعلانات هو… صفر!


الفوز همّ وطني!
عندما يشارك عازف أو أكثر في «مسابقة شوبان الدولية»، يصبح بلده شعباً ودولةً معنياً بالحدث بدافعٍ وطنيّ. ففوزه موسيقياً يعني فوزاً معنوياً كبيراً لبلده، إذ يُعد ذلك مؤشراً على «صحّة» المجتمع والمؤسسات التي سمحت لمواهب بالوصول إلى القمة. في فترة الاتحاد السوفياتي، وبالأخص أيام «الحرب الباردة» الشديدة السخونة، وصلت المنافسة إلى الذروة بين المعسكرين النقيضيَن، على كل المستويات، بما فيها وربما أهمّها الموسيقى والفنون وكذلك الرياضة. اليوم باتت المنافسة بين الصين والعالم. الصين، مصنع العالم، صارت اليوم الأولى في العالم في مجال تخريج دفعات من آلاف الموسيقيين سنوياً (وهذا موضوع طويل يتطلّب ملفاً خاصاً)، خصوصاً عازفي البيانو الكلاسيكي المحترفين. ففي الدورة الحالية من «مسابقة شوبان»، ذهبت حصّة الأسد في المشاركة للصين، وهذا غير مفاجئ عندما تهتم دولة تضم ربع سكّان العالم في هذا المجال.
تاريخياً، كان للاتحاد السوفياتي (بالأخص روسيا وأوكرانيا)، حيث شكّلت الموسيقى أساس المجتمع الثوري، سيطرة شبه كاملة على المسابقة، إلى جانب البلد المضيف بولونيا، لغاية دورة عام 1960، مع انتزاع ماوريزيو بولّيني، عن جدارة، الميدالية الذهبية لمصلحة إيطاليا. عام 1965 ضربت أميركا اللاتينية بقوة وبشكل مفاجئ، مع فوز مارتا أرغيريتش (الأرجنتين) بالمرتبة الأولى (وجائزة «أفضل مازوركا»)، وحلول أرتور موريرا ليما ثانياً (البرازيل). عام 1970، حقّق غاريك أولسون للولايات المتحدة في بولونيا ما سبق أن حققه مواطنه الأميركي فان كلايبرن في روسيا (الأول عن فئة البيانو في «مسابقة تشايكوفسكي» عام 1958)، وحلّت اليابانية الكبيرة ميتسوكو أوشيدا بالمرتبة الثانية، لتبدأ معها المنافسة الآسيوية على المسابقة. عام 1975 استعادت بولونيا اللقب مع كريستيان زيمرمان، بعدما كان قد فاز مواطنه آدم هاراشييفيتش بالذهبية عام 1955. عام 1980 عادت آسيا إلى المنافسة، عندما شقّ الفيتنامي دانغ تاي سون (وهو أستاذ الفائز بدورة 2021) طريقاً إلى القمة، من بلد منهكٍ بسنوات الحروب الفرنسية والأميركية. ولمّا كان الاتحاد السوفياتي يتّجه إلى الانهيار، حقق آخر إنجاز له في المسابقة من خلال ستانيسلاف بونين الذي خفت نجمه لاحقاً. في دورتَي 1990 و1995، ولأول وآخر مرّة في تاريخ المسابقة، لم يرتقِ أي مشارك إلى المرتبة الأولى. لكن الحق يقال، إن ظلماً لحق بالأوزبكستاني الأصل ألكسي سلطانوف الذي حلّ ثانياً (رفَض تسلّم الجائزة) قبل أن تظلمه الحياة ويرحل بعد عشر سنوات عن 35 ربيعاً. لكن في هذه الفترة (التسعينيات)، كان التنين الصيني يتعافى من أضرار خطأ الثورة الثقافية، ويستيقظ بهدوء وثبات، ليُتَوَّج بالميدالية الذهبية من خلال يوندي لي (2000 — وجائزة «أفضل بولونيز»)، قبل أن تستفيق بولونيا وتعيد «شوبان» إلى وطنه من خلال أنامل فولاذية حريرية، ستضع رافال بليخاتش أولاً، وعن جدارة غير مسبوقة، إذا ابتعد كثيراً عن زملائه حاصداً كل الجوائز الخاصّة وتاركاً المرتبة الثانية شاغرة… فهو الأول وهو الثاني وهو الأفضل في الـ«مازوركا» و«البولونيز» والـ«كونشرتو». عام 2005 كانت روسيا قد بدأت باستعادة كرامتها التي سوِّيَت بالأرض في العقد السابق، فاستعادت مجدها الضائع. لكن المفارقة أن هذه العودة شابها عدم جدارة الفائزة بالمرتبة الأولى، يوليانا أفديفا، وإجحافٌ بحق مواطنها الفائز بالمرتبة الثالثة دانيال تريفونوف، وكذلك زميلهما النمسَاوي إنغولف فوندر (المرتبة الثانية)، قبل أن تعيد السنوات اللاحقة الاعتبار لمن يستحق، بالأخص لتريفونوف الذي يعدّ من أهم رموز البيانو في العالم اليوم. في الدورة ما قبل الأخيرة، وبعد محاولات لم توصلها إلى أكثر من الميدالية البرونزية، حقّقت كوريا الجنوبية الإنجاز الكبير، بفوز سيانغ-جين شو بالمرتبة الأولى، في حين اقتربت كندا من الإنجاز، عبر شارل ريشار-هاملان (الميدالية الفضّية)، لتحققه هذه السنة مع بروس (تشياو) ليو، لأول مرة في تاريخها… لكن بقناع صيني!
ماذا عن لبنان والدول العربية؟ لا يوجد اسم أي فائز عربي بأي مرتبة في تاريخ المسابقة، علماً أنه حصل أن تقدّم إليها موسيقيون من أصول عربية. لا نعرف الكثير في هذا الخصوص بسبب عدم توافر كامل أرشيف الدورات الـ18، لكن نعرف أن لجنة التحكيم ضمّت في دورة 1970 رئيف أبي اللمع، إحدى الشخصيات الناشطة في مجال الموسيقى في لبنان (قيادة أوركسترا الكونسرفتوار قبل الحرب).


الجوائز الخاصّة
كما هو معلوم، ثمّة باقات من أعمال لشوبان مفروضة على المتبارين في المسابقة ويمكن الاختيار منها، وأخرى حرّة، متروكة لكل عازف. فبعض فئات الأعمال الأساسية من ريبرتوار شوبان لها دلالات كبيرة على مدى الفهم الموسيقي لهذا المؤلف، بالتالي تم تخصيص جوائز للذين يقدّمون أفضل أداء لها، بصرف النظر عن التراتبية بين المواقع الستة الأولى. سلسلة هذه الجوائز بدأت بـ”أفضل مازوركا“، قبل أن تضاف جائزة ثانية هي ”أفضل بولونيز“ بدءاً من دورة 1960، ثم ”أفضل كونشرتو“ (منذ 1980) فـ”أفضل سوناتة“ (منذ 2010). وكما الجوائز الأساسية، يمكن لتلك الخاصّة أن لا تُمنَح لأحد، كلياً، كما في دورة 1995 (حيث لم يرتقِ أحدٌ أيضاً إلى المرتبة الأولى، كما في دورة 1990) أو جزئياً، كما في دورتَي 2000 و2015. كذلك، قد يحصل الفائز بإحدى المراتب الست على واحدة أو أكثر من هذه الجوائز، أو حتى كلها كما حصل مرّتين في تاريخ المسابقة، مع الكبير العتيق كريستيان زيمرمان (وهو الذي أدرج جائزة أفضل سوناتة عام 2010) عام 1975، إذ حصد الميدالية الذهبية وجائزتَي «أفضل مازوركا» وأفضل «بولونيز»، وكذلك مع الكبير الشاب رافال بليخاتش عام 2005 (الذهبية، وأفضل «كورنشرتو» و«مازوركا» و«بولونيز»). أما هذه السنة، فقد نال جائزة «أفضل مازوركا» صاحب المرتبة الرابعة ياكوب كوشليك، وذهبت «أفضل كونشرتو» لصاحب الميدالية البرونزية مارتين غارثيا غارثيا و«أفضل سوناتة» لألكسندر غودجييف الحائز الميدالية الفضّية، في حين امتنعت اللجنة عن منح أحد جائزة «أفضل بولونيز».


كبار «سقطوا» في الامتحان
تاريخ المسابقات حافل بالحكايات والأخطاء وحتى الفضائح (غير المقصودة). كثيرون، وليس قلّة، من كبار عازفي البيانو الصاعدين لا «يؤمنون» بالمسابقات ويمتنعون عن المشاركة فيها، بالأخص تلك المتخصّصة، كـ «مسابقة شوبان» المحصورة بآلة واحدة ومؤلف واحد. أحياناً يكون سبب عدم المشاركة هو بلوغ قمم في العزف والشهرة قبل بلوغ السن التي تتيح المشاركة، مثل السوفياتي/ الروسي يفغيني كيسين الذي أصبح مكرّساً عالمياً وهو لم يتعدَّ الـ15 من عمره. كذلك، تخيّلوا لو شارك الكندي غلَن غولد بـ«شوبان»! بالتأكيد لم يكن ليُقبل طلبه من الأساس، ولو قُبِل، ما كان ليبلغ المرحلة التمهيدية أصلاً. فهو لا يحب الريبرتوار الرومنطيقي، وتسجيلاته القليلة لشوبان أبعد من أن تكون مرجعاً. لكن موضوع هذه الزاوية من الملف يخصّ من شاركوا وفشلوا وهم اليوم أساطير راحلة أو حيّة، ونكتفي بأمثلة قليلة لكن معبّرة. مثلاً، عندما فاز السوفياتي ليف أوبورين بالدورة الأولى، كان ثمة سوفياتي آخر مشاركٌ في المسابقة ولم يحقّق أي مرتبة (حصل على جائزة فخرية فقط): إنه أحد أكبر أدمغة التأليف في القرن العشرين. إنه ديمتري شوستاكوفيتش. شوستاكوفيتش لم يكن يتطلّع إلى مسيرة في مجال الأداء، حيث مجال التأليف مختلف كلياً وربما أهم بكثير، إن توُفّرت الموهبة الخارقة، كما هي حال مؤلّفنا. لكن هناك من هم موهوبون في العزف والأداء ولم يفوزوا. نبدأ من دورة عام 1955، حيث حل السوفياتي/ الروسي فلاديمير أشكينازي بالمرتبة الثانية مسبّباً اعتراضاً قوياً من عضو اللجنة التحكيمية آنذاك، أسطورة البيانو الإيطالي أرتورو بينيديتّي ميكلنجلي، وأثبتت السنوات اللاحقة صحّة الاعتراض. فالأول، البولوني هاراشييفيتش، ممتاز لا شك، لكنّ ريبرتواره محدود بشوبان، بينما يعدّ أشكينازي من أغزر عازفي البيانو وأهمهم في القرن العشرين (مولود عام 1937، وهو لا يزال منتجاً، إذ أصدر الشهر الماضي ديسكاً جديداً مخصصاً لباخ)، وإنجازاته كثيرة، بما فيها في شوبان. عام 1970 حلّت ميتسوكو أوشيدا بالمرتبة الثانية، في حين سطع نجمها في أكثر من ريبرتوار، باستثناء شوبان، بينما حصَر الأول في الدورة، غاريك أولسن، اهتمامه بشوبان. الفضيحة الكبرى حلّت عام 1980، عندما استبعِد إيفو بوغوريليتش في المرحلة الثانية وبقي خارج أي تصنيف، ما سبب استقالة مارتا أرغيريتش اعتراضاً على القرار، ليتبيّن لاحقاً أنّ ردّة فعلها القاسية مبرّرة كلياً، نسبةً إلى ما حقّقه الرجل، مباشرةً بعد المسابقة، من تسجيلات مذهلة لشوبان وغيره. أخيراً، ضجّ عالم الموسيقى عام 2010 بالنتيجة المجحفة بحق النمسَاوي إنغولف فوندر (المرتبة الثانية) والروسي دانيال تريفونوف (المرتبة الثالثة)، بينما نالت الروسية يوليانا أفديفا ميدالية ذهبية لم تستطع تبرير حصولها عليها في التسجيلات التي أنجزتها بعد المسابقة… في حين انكفأ فوندر قليلاً، مكتفياً بتسجيلات جيدة قليلة، بينما انتقم تريفونوف لهذا الظلم محققاً الإنجاز تلوَ الآخر. المفارقة التاريخية، أن أرغيريتش زكّت أفديفا، لكن بخلاف عام 1980، قرارها هذه المرة لم يكن صائباً! هذه السنة شاهدنا بعض النتائج الغريبة، من دون أن ترتقي إلى مستوى الخطأ الفادح أو الفضيحة. لكن في كل الأحوال، المراتب لا تعني شيئاً في هذا المجال… فمن لديه الموهبة والاستعداد لليالٍ من السهر والتعب، يمكنه أن يقدّم ما سيضعه أولاً في نظر عضو اللجنة التحكيمية الذي لا يُخطئ: التاريخ.
■ ■ ■

«دويتشيه غراموفون» وإرث الاحتضان
«دويتشيه غراموفون». اسمٌ يعلو ولا يُعلى عليه. إنه الناشر الواضح الجنسية من اسمه: الغراموفون الألماني. في السنوات الأخيرة، ومع تراجع الإقبال على السيديهات مقابل تقدّم الستريمينغ، عانى الكثير من الناشرين، فتوقّف بعضهم عن العمل واندمج بعضهم بالآخر. خلال أزمة كورونا وتأثيرها على الوضع الاقتصادي والتجارة العالمية، زادت معاناة العاملين في صناعة الموسيقى الكلاسيكية. أما «دويتشيه غراموفون»، فما زادت إلاّ ازدهاراً في نشاطها وإصداراتها ومشاريعها. إنها الشركة الأقدم على الإطلاق في مجالها. تأسست عام 1898. تغيّرت حدود الدول، تغيّرت معالم العالم، ولدت تيارات وماتت أخرى، كل البشر الذين كانوا على الكرة الأرضية حين تأسيسها باتوا اليوم تحت التراب… أما الـ «لوغو الأصفر»، فلا يزال ساطعاً كالشمس، مشرقاً على الناس، منيراً العقول. بالرغم من كل ما مرّ به العالم أخيراً، حصل «دويتشيه غراموفون» على لقب «ناشر العام» من مجلّة «غراموفون» الإنكليزية، لأنّ ما أنجزه في ظل الخراب أقرب إلى الأعجوبة.
للناشر العريق علاقة خاصّة بـ «مسابقة شوبان». فأذناه تكونان حاضرتين لرصد واعدٍ خلال المسابقة، ويكون العقد جاهزاً لا ينقصه سوى اسم «الفريق الثاني»، أي عموماً الفائز/ة بالمرتبة الأولى، أو بشكل أدقّ، الأفضل بصرف النظر عن تصنيف التحكيم له. فمنذ ماوريزيو بولّيني، احتضن «دويتشيه غراموفون» اللامعين في المسابقة، الأوائل غالباً، والأفضل دائماً. فمثلاً، اعتُبِر إيفو بوغوريليتش «فاشلاً» في نظر اللجنة التحكيمية، لكن الناشر الألماني اعتبره أوّلاً، فضمّه تحت جناحه بعد المسابقة مباشرةً. كذلك، عام 2010، حين حظي إنغولف فوندر صاحب الميدالية الفضّية بالعقد الذهبي، بدلاً من صاحبة الذهبية يوليانا أفديفا. ومنذ الدورة السابقة (2015)، أصبح هناك اتفاق رسمي بين منظّمي المسابقة والناشر الألماني، لناحية احتضان الفائز ونشر أول إصدار له في أسرع وقت ممكن.
عموماً، أول ديسك يصدر بعد توقيع العقد يكون مخصّصاً لشوبان، ويحوي تحديداً تسجيلاً حيّاً من المسابقة. بعد ذلك للعازف المختار حرّية تسجيل ما يختاره من الريبرتوار، لكن إجمالاً لا تخلو الإصدارات التالية من ديسك أو أكثر لشوبان. أمّا بالنسبة إلى بروس ليو (يبدو أنه أسقط اسمه الأوسط «تشياو» بشكل رسمي)، الذي استحقّ الفوز وكذلك العقد مع «دويتشيه غرامون» عن جدارة، فبات غلاف ديسكه الأول جاهزاً والإصدار الرسمي يوم الجمعة المقبل.
من جهة ثانية، لـ«دويتشيه غراموفون» إصدارٌ شهير لكامل أعمال شوبان (أعيد طبعه بحلّة جديدة)، وهذه السنة، ومواكبةً للحدث، صدرت علبة أنيقة (28 قرصاً) تحوي أعمالاً لشوبان بأنامل من فازوا (أو برزوا) بالمسابقة، بالإضافة إلى مقتطفات لكبار مَن أدّوا المؤلف الكبير وأغنوا «الكاتالوغ الأصفر» بتسجيلات مرجعية.