دبي | في كل مرة يفتتحون فيها معرضاً فردياً أو جماعياً، يدفعك القائمون على صالة «غراي نويز» إلى الانغماس الحقيقي في المنجز الفني بعيداً من أصوات قرع الكؤوس وثرثرة «محبي الفنون». تقشّف إلى حد كافٍ يصب في مصلحة افتتاح أول معرض فردي لشربل جوزيف ح. بطرس (بكفيّا ـ 1981) أخيراً في دبي. تقصّد الفنان الغياب على ما يبدو ليكرّس تجربة الزائر في سبر مفاهيميّته المثقلة بثنائيات وجودية لفّتها نوستالجيا لحظية فارقة لعناصر فقدها (فقدناها) إلى الأبد.
معرض «أظن أن الأحلام لطالما وُجِدَتْ هناك» ليس بحثاً في ميكانيكيا الحلم بقدر ما هو تلقّف حميمي مشحون بالمفارقات للغموض الذي يواجه وعينا عند محاولاته المستعصية فهم مفرزات صور اللاوعي السريالية. الغياب والحضور، الشك واليقين، الوجود والعدم، الإيمان والمعتقد، الزمن والوقت؛ ثنائيات تدور في فضاء «ثالوث مقدّس» (المعرض، الفنان، المتلقي) من دون أن تقدم أي بارقة أمل بحلّ المعضلات الوجودية المعاصرة إلا في التشديد على طرح الأسئلة ضمن معطى عشوائي مربك لسياسات وأنظمة ما بعد الحداثة والعولمة.
يستقبلك حذاء بطرس عند باب الصالة وميزان الحرارة الزئبقي يقبع في إحدى فردتيه: أنا موجود معكم فذلك الحذاء («بدون عنوان حتى الآن»، 2014) كان ساخناً عندما انتعلته مرة، وها هما دمعتاي في زجاجتين منفصلتين («دموع منفصلة»، 2014) بينما كنت أجول في مدن عدة طيلة شهر آب (أغسطس) 2013 الذي اقتطعت والدتي أيامه من رزنامتها الرعائية («أيام تحت شمسها»، 2013) وعرضّتها لشمس بكفيّا تحت طلبي، فصار بياض الورق آنياً جداً وبات لكل يوم شمسه الخاصة التي تختلف عن شمسي أو لا تختلف. أما الرب القابع في سطر إصحاح لوقا (23:34) الذي خُطّ بمصابيح نيون بيضاء باردة على جدار بارتفاع 3.5 أمتار عن أرضية المعرض، فما زال هناك يردد مقولته الشهيرة («يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ»، 2013). كأنما «الخطيئة» تحاصرنا حيثما اتجهنا، فنلجأ لكومة الملح الملقاة إلى زاوية أحد الجدران لنطّهر ذواتنا، وإذ بنا أمام الثنائية الفخ التي نصبها لنا شربل بطرس: أملحٌ هذا أم سكّر («حلم ملح»، 2014)؟ إنهما الاثنان معاً في انسجام مزعج يؤرق كلّ محاولتنا للتصالح مع واقعٍ لم تندمل جروح الماضي في طيّاته... هو الحنين إذاً.

«العاشقان» هما قلما رصاص آليان يلتقيان عند الرأس ويتشاركان الرصاصة عينها

في سعينا الحثيث لتناسي كوابيسنا، الألم العتيق، شكوكنا، انكساراتنا؛ نتحول إلى ممحاة شربل البيضاء الملقاة على الأرض («الممحاة ممحية»، 2011) التي مسحت نفسها بالقدر نفسه الذي نعتقد فيه أنها فعلت ما كُلِّفت بالقيام به. سخرية غريبة تؤطر آمالنا البلهاء وتسائل مجدداً مفاهيم الديمومة واللحظية والاستغراق بينهما في فضاءات مكانية باتت أكثر تعقيداً في الوقت الراهن. تورد ترجمة بطرس الذاتية أنه يعمل ويعيش متنقلاً بين بيروت وباريس وماسترخت. ثلاثة هواتف قديمة («دعه يرنّ»، 2014)، وضعت على أرضية المعرض في ثلاث نقاط حُددت إحداثياتها الجغرافية بدقة فائقة لتشكل رؤوس مثلث متساوي الأضلاع، تشير إلى تلك المدن التي تسكن الفنان وباتت ثالوثاً ثقيل الظل يُعرِّفُ به تماماً كما تُعرَّف علاقة المؤمن بإيمانه: ماذا لو رنت الهواتف سويةً؟ ماذا لو رنّ الهاتف في بيروت بينما كنت في ماسترخت؟ ما هو مقدار الخسارة والربح؟ ما هو مقدار الشك؟ ما هو اليقين؟ إنه ثالوث أقفلناه («رسم مغلق»، 2011) بإحكام. ضلعاه خطان رصاصيان فيما ضلعه الثالث... القضيب الرصاصي عينه الذي رسمهما، اكسر قيدك.
«العاشقان» (2012) عند شربل، هما قلما رصاص آليان يلتقيان عند الرأس ويتشاركان الرصاصة عينها؛ هي علاقة هشةٌ هشاشة تلك المادة، فيما يبقى الجنس محورها الأزلي وغايتها القصوى. أهي «أضغاث أحلام» الحرب الأهلية التي ما برحت تزور شربل بطرس كل يوم وتدفعه لتوثيق ساعات نومه («لا ضوء في الضوء الأبيض/ خرائط الليل»، 2013) من دون كلل بين عامي 2011و2013؟ رذاذٌ أسود كثيف حول نقاط محددة في محور ساعات اليوم الواحد، كانت كفيلة بتحويل هواجس الموت الموقت اليومية إلى حالة إبداعية قائمة بحد ذاتها: هي كثقب أسود مظلم في هالة النور الأزلية. هي مرةً أخرى شكٌّ صارخ في مواجهة كلّ محاولات التدجين التي يخضع لها الإنسان المعاصر. هي حالة من السكينة الموقتة في محيط العنف اليومي، هي الحنين إلى المجهول.
عودٌ على بدء، أثبتت «غراي نويز» مجدداً جرأتها في التقديم، ويبقى التحدي الأبرز أمامها هو عينه الذي يواجه كماً كبيراً من النتاجات المعاصرة التي توظّف وسائط غير تقليدية في المنجز الفني: الاقتناء. في الإمارات المزدهرة حالياً في مجال سوق اللوحة، نشأ حراكٌ رديف شكّل جامعو التحف وداعمو الفنون نواته الأساسية، لكن لطالما اتسم ايقاع الاقتناء بحذره الشديد تجاه مفردات لا تقليدية في عالم الفنون.



«أظن أن الأحلام لطالما وُجِدَتْ هناك»: حتى 30 حزيران (يونيو) ــ صالة «غراي نويز» (دبي- حي فنون السركال أفينيو») ــ +97143790764