تحلّ اليوم الذكرى الــ200 لميلاد فيودور دوستويفسكي (وُلد في 11/11/1821). وبهذه المناسبة، أكتب تجربتي الشخصية مع عملاق الأدب الروسي، البحر الزاخر والموج الهادر، دوستويفسكي وما أدراك ما دوستويفسكي!حين كان عمري 19 سنة، طالباً في الجامعة الأردنية، سمعتُ كلاماً عن عظمة الأدب الروسي. فقرّرتُ أن أجرّبه بنفسي. اخترتُ رواية اسمها «الجريمة والعقاب». كنت مرة قد قرأتُ عنها لأديبٍ روسي مشهور هو دوستويفسكي. وعندما وجدتها بحدود الــ 700 صفحة من القطع الكبير، تردّدتُ ولكن في النهاية قلتُ: لنرى! وما إن انخرطتُ فيها، وقطعتُ 100 صفحة، حتى حصل شيء غريب. لم أعد قادراً على إفلات الرواية من يدي! لا أستطيع التوقّف ولا التركيز في أي شيء غيرها. أذهب إلى الجامعة وأعود وهي بيدي أقرؤها في الباص والبيت وفي كل وقت فراغ حتى لو كان قليلاً. أذهلتني وبهرتني واستفزت عندي العقلَ والضمير والوجدان.
بعدها بقيتُ أسبوعاً في حالة انفعال. ولما هدأتُ، قررتُ أن أتابع قراءة هذا العظيم الذي اكتشفته فجأة. فعثرتُ على رواية له اسمها «الإخوة كرامازوف»، لكن المشكلة كانت أنها من 2000 صفحة، مجلّدَين كبيرين! أصبتُ بنوعٍ من الخوف والتردّد ولكن تجربتي مع «الجريمة والعقاب» جعلتني أقدم على المغامرة الجديدة. ويا لها من مغامرة! تكرّر ما حصل معي. بل كانت أشد وأروع. وبقيتُ عالقاً بها حوالى شهر كامل، عشتُ خلاله وسط عائلة كرامازوف في روسيا العهد القيصري، حالة نادرة من الاندماج الكامل في الأحداث ومجرياتها وصراعات الأفكار والمواقف. وكنت كلّما قطعت شوطاً في القراءة أندمج في الرواية أكثر وأزداد شغفاً بها. وكلما قرأت أكثر، أصبحُ أشدّ اندفاعاً في القراءة: أتفاعلُ مع شخصياتها وأحسّ كأني أصبحتُ جزءاً منهم. أفكر معهم، وأشاركهم قلقهم ووجعهم وفرحهم، أحتار معهم، وأقرّر معهم، أترقّب ما سيحصل، أخاف، أنفعل... ضعتُ تماماً وصرتُ جزءاً من ذلك العالم الروسي في القرن التاسع عشر (توفي دوستويفسكي سنة 1881). وبقيتُ على تلك الحال إلى أن أنهيتُ الرواية/ السّفر العظيم التي غيّرتني ووسّعت آفاقي حتى لكأنّي صرتُ شخصاً جديداً، غير الذي كنته قبلها!
■ ■ ■

وبهذه المناسبة أحببتُ أن أتكلم عن «الأخوة كرامازوف» قليلاً حتى يتعرّف عليها من أحب أن يتعرف. علماً بأنني لا يمكن أن أوفيها حقها في بضع كلمات أو أسطر. إنما مجرّد لمحات وومضات عن ذلك العمل الكبير الذي يجلّ عن الوصف.
■ ■ ■

تدور الرواية حول أربع شخصيات رئيسية: الأب وأبناؤه (تخلو الرواية من شخصية الأم)، هم عائلة كرامازوف:
الأب فيودور: وهو شخص شرسٌ مؤذٍ، حقودٌ ولئيمٌ إلى أقصى حد، بخيلٌ ونذل، شهواني وعربيد. لا يحب أحداً بل يكره حتى أولاده! باختصار: شخص حقيرٌ بكل ما في الكلمة من معنى.
الابن الأكبر ديمتري: ضابطٌ في الجيش «القيصري». يحملُ بعضاً من صفات أبيه من ناحية القسوة والحدّة والشهوانية، ولكنّه أفضل منه. منضبط ومنظم، وبه خصالٌ حميدة خلافاً لأبيه.
الابن الأوسط إيفان: مثقّف من الطراز الرفيع، شكّاك ومضطّرب، رجل فكر وفلسفة، ملحد شديد الإلحاد، واشتراكيّ ثوريّ فوضويّ.
الابن الأصغر الكسي: طيّب جداً مثل الملاك! قمة في الأخلاق والرقّة والرحمة والجمال. راهبٌ في الكنيسة نذر نفسه للرب وللخير وللناس.
وليس هناك حدثٌ مركزيّ في الرواية، ولا «حبكة» معيّنة. وإنما هي هؤلاء الأربعة وحياتهم. وواضحٌ تماماً أنّ هؤلاء الأربعة يمثّلون اتجاهات فكرية/ سلوكية/ مجتمعية متباينة وموجودة في كل مكان وزمان. ولعلّ أهم ما يميّز دوستويفسكي ويجعله مختلفاً عن غيره أن الأحداث الحقيقية في روايته تقع داخل شخصيّاتها وفي أعماق نفوسهم، وما الأحداث الخارجية إلّا صدى للمعارك الكبرى التي تحصل في القلوب والعقول.
و«الأخوة كرامازوف» ملحمة كبرى: فيها العلاقة الجدلية/ التكاملية/ التناقضية بين الفلسفة والعلم والدين. وفيها صراع الخير والشر. وقبل ذلك معنى الخير ومعنى الشر، وفيها الصراع بين جوانب شخصية الإنسان: الجانب المظلم/ الدموي/ القبيح والجانب الطيب/ الراقي/ الأخلاقي. فيها الحب والعاطفة والجنس، وفيها العلاقات داخل الأسرة والمجتمع. وهي ترصد التغيّرات التي تحدث داخل المجتمع وتقبله أو رفضه لما هو جديد. إنها رواية فلسفة، رواية علم نفس، رواية جريمة، رواية سياسية/ اجتماعية/ تاريخية تشرّح النفس البشرية بشكل لا نظير له. إنها رواية تجذب القارئ وتجعله جزءاً من الأحداث والشخصيات متفاعلاً معها ومندمجاً بها، لا مجرد متابعٍ متفرج. إنها رواية تُحدث أثراً هائلاً في نفس القارئ وتجعله ينظر بشكل مختلف إلى الحياة، أوسع، أعمق، وأكثر وضوحاً.
■ ■ ■

مضت أكثر من ثلاثين سنة على تلك التجربة، وإلى الآن ما زلتُ أشعر بالرهبة كلما خطر في بالي ذلك الجبل الشامخ! إنه دوستويفسكي يا ولدي، هرمٌ أدبي، قمّة حقيقية. هو اليمّ في أحشائه الدرّ كامنٌ. أعجوبة روسيا وأسطورة كل زمان. لا يرقى إليه العظماء ولا يدنو من مقامه الكبراء.

* كاتب أردني