تحتل ثلاثية الدين والسلطة والجنس صدارة الرقابة المعتادة في محيطنا تقليدياً. وإذا كانت التقنيات الجديدة قد خففت كثيراً من من حدة الرقابة وجعلتها شبه معدومة عملياً، فهي بقيت في مجال الكتب والمنشورات، لأنّها أسهل للمراقبة والضبط من المحطات الفضائية والمواقع الإلكترونية. ويتمظهر المنع بطرق كثيرة، كمنع إدخال المطبوعات الأجنبية، والمصادرات، إلى منع بعض دور النشر من المشاركة في معارض الكتب، أو مطالبتها بسحب كتاب أو أكثر من مجموعات العرض، أو التعتيم على كتاب «مزعج».إنّ الكتب التي نقصدها لا تشمل المنشورات والمجلات الجنسية أو المواد الإباحية بشكل عام، بل يفهم بالكتب الجنسانية مجموع الأدبيات ذات الطابع الجنسي التي لا تهدف الى الإثارة المحضة بالمعنى الإباحي للكلمة، بل هي كتبت في مراحل تاريخية متعددة ولأهداف متعددة: بناء على طلب الحاكم، أو بهدف بيداغوجي أو عرضي، أو ببساطة تعبيراً عن أهواء كاتبها، بالأخص شعراً، وتعتبر شاهداً على عصرها ومصدراً تأريخياً، عدا قيمتها الأدبية طبعاً.
يساند المنعَ خطاب أخلاقوي طهري، ديني المنشأ في أغلب الأحيان، يتبرع لرسم صورة للحيز العام كحيز «نظيف» خال من الظواهر التي قد تعكر صفو النمطيات الأخلاقية العامة. ويتطفل على الأفراد في حياتهم الشخصية والعائلية والعاطفية والاجتماعية، محاولاً فرض أنماط سلوكية أقله بالشكل والتصريح العلني، مع غض نظر ريائي فاضح من جهة أخرى.
من نتائج هذا الخطاب حظر التداول في الكثير من المواضيع الجنسية أو الإيروسية أو التفوّه بعبارات ذات صلة، وهي من أصل اللغة العربية الغنية جداً بها. أخيراً، يطمس الخطاب الطهري حيّزاً مهماً من تاريخ اللغة العربية ونتاجها، لأنّه يمنع تدريس هذا القسم من الأدب في المرحلتين الثانوية والجامعية، في محاولة تأبيد لحظة آنية متخيلة، لأنّها في طلاق مع ممارسات الناس، في لازمانية مدعاة. تكتسب مقدمة الجاحظ لرسالته في «مفاخرة الجواري والغلمان» قيمة معاصرة لا لبس فيها، على ضوء ما تقدم، بالرغم من مرور أكثر من أحد عشر قرناً على كتابتها، وخاصة عندما يقول «وبعض من يُظهر النسك والتقشُّف إذا ذُكر الحر والأير والنَّيك تقزَّز وانقبض. وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجلٌ ليس معه من المعرفة والكرم، والنُّبل والوقار، إلا بقدر هذا التصنُّع».
وفي استعراض تاريخي سريع، نرى أنّ أدبيات اللغة العربية تزخر بالجنسانية الطافية، تصريحاً وتلميحاً، فهي تكاد تكون في كل مكان، من التعيير والشتم، الى المعاجم والموسوعات وكتب التراث نثراً وشعراً، الى المؤلفات المختصة بها.
تعطي النصوص الشعرية والنثرية السابقة للإسلام، إضافة إلى الأدبيات الإسلامية المبكرة، فكرة عن الحياة الجنسية للعرب في شبه الجزيرة في تلك المرحلة. فتفيدنا عن أشكال الزواج والاتصال بين الرجل والمرأة، كزواج الاستبضاع أو الرهط وغيرهما. ويستدل منها على الظواهر الاجتماعية المتصلة بالجنس، كالزنا مثلاً، فذكرت المصادر قحبة عكاظ وظلمة الهذلية، إضافة الى البغايا، أصحاب الرايات. وذُكر السحاق، كقصة عشق هند بنت النعمان لزرقاء اليمامة، وذكر التخنث أيضاً، كاتهام عمرو بن هشام بن المغيرة (أبو جهل) والحكم بن أبي العاص به. إضافة الى اللواط، فقد روي عن أبي سفيان أنه كان عتمد استه على حجر أو عصا فيحكها. وقد عيّره بها عتبة بن ربيعة في يوم بدر، إذ قال له يا مصفر استه. وعرفت أيضاً أشكال الجنس البهيمي، إذ يستدل عليها من بعض بيوت الشعر، ومن الأمثال كالقول «أشبق من جمالة»، في إشارة الى رجل من بني قيس بن ثعلبية كان يأتي ناقة. وبعض بيوت الشعر تصف الفرج صراحة، فضلاً عن الشبق العام بالنساء في الكثير من شعر العرب قبل الإسلام، كشعر الأعشى، وامرئ القيس والنابغة الذبياني.
كما تحتوي كتب التراث الإسلامي، من سير وأحاديث وتواريخ وفقه، نصوصاً عديدة ذات دلالات جنسية واضحة بالتصريح، أو بالتلميح. يستدل من بعضها على الكلام التعييري والنابي الذي كان سائداً في المرحلة التي سبقت ظهور الإسلام ومرحلة صدر الإسلام. وهي شاهد على البيئة المكية والحجازية عامة في تلك المرحلة. لا يقتصر الحديث الجنسي في كتب التراث على الفقه والانكحة وما شابه فقط، بل يتعداها إلى التعبير الصريح عن الجنسي في حياة الناس، كبعد أساسي من أبعاد الاجتماع البشري.
إنّ ورود هذا الحقل المعجمي على لسان الشخصيات الأساسية في الإسلام، هو تحديداً ما يتترس به الجاحظ في مقدمة رسالته الثالثة عشرة في «مفاخرة الجواري والغلمان». إذ يدافع استباقياً عن نفسه معللاً بأن الكلمات إن وجدت، فلكي تستعمل، وبأن النبي والصحابة استعملوها، مفنداً بشواهد نصية.
لا تقتصر النصوص الجنسانية عند الجاحظ على الرسالة المذكورة فقط، فهو يورد مجموعة من الأشعار والنوادر الجنسية في متون أكثر من مؤلف من مؤلفاته، نقلاً عن كتّاب سبقوه أو عاصروه، وخاصة في «الرسائل»، «كتاب الحيوان»، «البيان والتبيين»، و«المحاسن والأضداد»، المنسوب إليه.
لا يتفرّد الجاحظ، إضافة الى كتاب «ألف ليلة وليلة» بنسخته غير المهذبة، بهذه الخاصية في تاريخ اللغة العربية وآدابها، بل إنّ كثيراً من كبار المؤلفين تحتوي كتاباتهم على شواهد ومنقولات من هذا النوع. نجد على سبيل المثال لا الحصر نصوصاً مماثلة المحتوى عند المسعودي في «مروج الذهب»، وهو كالجاحظ من القرن التاسع، أو التوحيدي وهو من القرن العاشر، في «البصائر والذخائر»، أو «الإمتاع والمؤانسة»، إضافة الى الأصبهاني في «محاضرات الأدباء» وفي «الأغاني».
يحتل أبو نواس مكانة متميزة في طائفة الشعراء «الخلعاء»

لا تنضب النصوص في الحقبات التالية، فللثعالبي النيسابوري في «يتيمة الدهر»، «الكناية والتعريض»، و«فقه اللغة»، أو ابن سيده في مصنفه «المخصص»، والآبي في كتابه «نثر الدر في المحاضرات». وأيضاً في القرون اللاحقة، كالسلفي في «معجم السفر»، وهو من القرن الثاني عشر.
كذلك عند ياقوت الحموي في «معجم البلدان»، وعند ابن منظور في «لسان العرب»، وكلاهما من القرن الثالث عشر، أو ابن كثيّر في «البداية والنهاية»، في القرن اللاحق، وداود الأنطاكي من السادس عشر في كتابه «أخبار العشاق».
يحتل أبو نواس مكانة متميزة في هذا السياق. هو صاحب أشعار طمستها يد الرقيب، فلم يصلنا منها تدريساً وشيوعاً إلا أبيات باهتة عن الخمرة، حسبناها ونحن طلاب ذروة ما قال من شعر «جريء». لأبي نواس شعر أعاد تحقيقه الشاعر العراقي جمال جمعة، وصدر عن «دار الريس» بعنوان «النصوص المحرمة» يحتوي على قصائد ماجنة «متجاوز فيها الحد»، وتكمن روعتها في كونها انعكاساً لشخصية الشاعر واهتماماته وعواطفه، بعيداً عن بلاط الخليفة والمديح والهجاء، وفي أنّها تعبر عن جو طبقة معينة في بغداد تحت حكم هارون الرشيد، ثم الأمين فالمأمون، وفي كونها مطموسة أصلاً. يتشارك أبو نواس بهذا الأمر مع طائفة من الشعراء «الخلعاء» الذين عاصروه أو كادوا، كوالبة بن الحباب، الحسين بن الضحاك، مطيع بن اياس، يحيى بن زياد، واللائحة تطول بين العراق والشام، وحواضر أخرى في الدولة العباسية.
جميع هؤلاء الشعراء هم من أبناء العصر العباسي الذهبي، الذي أنتج أيضاً أدباً جديداً هو أدب الباه الذي يفصل ما يستحب أن يأتيه الرجل والمرأة في المظهر والتزين والمحادثة قبل العمل الجنسي وخلاله، إضافة الى طبائع الرجال والنساء والمستحب والمكروه منهم وكيفية استمالتهم، إضافة الى فصول طبية ذات صلة. ووصلت إلينا هذه الكتابات على شكل توليفات، معظمها متأخر، بعد القرن الثاني عشر. وتعالج هذه التوليفات موضوعات الجنس في أوقاته وأشكاله، ووصف أعضاء الرجل والمرأة، ووصايا الأمهات لبناتهن ليلة الزواج، فضلاً عن طائفة من أخبار القيادة والبغاء والسحاق واللواط، والجواري والغلمان والقحاب والمخنثين.... أو تعالج المواضيع الطبية المتعلقة بالحياة الجنسية على ضوء معارف العصر، أو أيضاً هي كتب يختلط فيها الطبي بالفنون الجنسية، وأخيراً هناك التوليفات العامة التي تتضمن من جملة ما تتضمن فصولاً أو مقاطع لها علاقة بما سلف.
من أهم هذه التوليفات: «نزهة الأصحاب في معاشرة الأحباب» للسموأل بن يحيى بن عباس المغربي، وهو من القرن الثاني عشر، «نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب» لشهاب الدين أحمد التيفاشي، «الروض العاطر في نزهة الخاطر» للنفزاوي (حقق الأخيران جمال جمعة)، «تحفة العروس ومتعة النفوس» للتجاني (حققه جليل العطية)، والكتب المذكورة صدرت عن «دار رياض الريس». وهناك أيضاً «نواضر الايك في معرفة النيك»، و«الوشاح في فوائد النكاح» للعلامة الكبير جلال الدين السيوطي، و«جوامع اللذة» للقزويني، التي صدرت عن «دار تالة للنشر».
اللافت أنّ معظم هذه التوليفات كتبها فقهاء من مصر والمغرب العربي، بناءً على طلب من الحاكم، باستثناء التيفاشي والسيوطي على الأرجح.
وأخيراً، تم تحقيق أو إعادة تحقيق عدد منها، ونشرت هذه النصوص بفضل عدد من الأدباء ودور النشر كما ذكرنا، إضافة الى مؤلفات حديثة متصلة بموضوع البحث، كـ«القاموس الجنسي عند العرب» لعلي عبد العليم، أو «الشبق المحرم- أنطولوجيا النصوص الممنوعة»، «المتعة المحظورة»، و«الإسلام-مدخل جنسي»، «الجنس في الإسلام»، «الضلع الأعوج» وغيرها للكاتب إبراهيم محمود. هناك أيضاً «الجنس عند العرب- نصوص مختارة» الذي يقع في ستة أجزاء.
وإذا كان من المهم الاهتمام بإعادة نشر هذه النصوص والتعليق عليها، فمن المهم أيضاً التعريف بها، لا البقاء في دائرة انفصام الشخصية الرقابي الذي يطال بمبضعه هذا الحيز من التراث اللغوي.