عند السماع بوثائقي عن جورج إبراهيم عبدالله (1951) سيخطر، تلقائياً، في البال أن المَشاهد التي ستُبث، ستُزعج بعضهم وستفرح كثيرين. سنبني التصوّرات عنه في الرأس بسرعة بناءً على القليل الذي نعرفه: مغامرات في زمن الحرب، البطولات تحت القصف، مجموعة شباب يدعون «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية» (تأسست عام 1979) وصوت رصاصتهم الصاخب التي وصل صداها إلى الغرب. سنتعامل مع الوثائقي كأننا على موعد مع فيلم مشوّق، دراميُّ في الوقت عينه، وستعمل الذاكرة شغلها بإحالتنا إلى مزاج «التحدّي الصعب في الزمن الصعب» في ربط الفيلم الموعود مع مقتطفات مصوّرة سبق أن شاهدناها لأفلام غاصت في عوالم مجموعات ثورية كفيلم «بادر ماينهوف كومبليكس» مثلاً. سنتنفس الصعداء، لأننا وأخيراً، سنجد فيه حلاً للغز لطالما شغلنا، نهاية لحيرة مؤسفة لسؤال، تراجيدي بطبعِه، راودنا طويلاً: ماذا كان يفعل رجلٌ شجاع ووسيم قبل لحظات من تكبيله بتهمة حيازة جواز سفر فرنسي مزوّر؟ كيف فضح أمره؟ ماذا كان يخطط في المستقبل؟ لماذا بقي في المكان نفسه؟ من هنا ستولد الحبكة، وستتعقّد القصة، بعد تراص أحداث في سرد متصاعد يتخذ وهج التشويق في مشهد السفير الإسرائيلي ياكوف بارسيمنتوف مقتولاً تحت شجرة في إحدى حدائق باريس بخمس رصاصات مفرَّغة في صدره من مسدس 7.75ملم أوتوماتيكي تشيكي، على يد فتاة عشرينية تضع «بيريه» بيضاء اسمها الحقيقي جاكلين إسبر. إلا أنها مثل أي شاعر يستعمل المجاز للتجاوز والتعدي، قد اعتمدت التمويه، لأن على المرء أن يتبدل أو يتقمص في زمن الحرب، ففضّلت أن يكون اسمها ريما.
ستحضر في ذهننا أيضاً الإشارة الزرقاء؛ دخول العلامة الإرشادية عنوةً قبل المشهد الأول كتحذير، مقاطعةَ الإثارة كوخزة في العين، بعد توصية مفروضة من سلطات الرقابة حرصاً على سلامة المشاهدين وخوفاً من تأثير المحتوى على العقول. جذر هذا الحرص ليس مشاهد إراقة الدماء، أو فجاجة في العنف، أو صور لجثث مشوّهة. كل هذا غير موجود أصلاً لأنه ليس من اختصاص جورج عبدالله وفصيله، إنما آت من تجلّي الأيديولوجيا، السلاح الأكثر فتكاً في زمن السلم حيث وجه الحرية مشتق من ملامح المُهيمن، فيما الأفكار باتت اعتباطية، تدّعي الانتماء للصفر تارةً وتحتفي بنهاية التاريخ طوراً. سيكون حذراً بمثابة قلق، يعود مصدره إلى ماهية جورج عبدالله المتبديّة بأناقته، بنظرته الملتهبة، بالرأس المرفوع وطبعاً... بماركسيته وعروبيته اللذين يعلنهما جهاراً أمام كل قاض وكل ضيف. هو الخوف من أفكاره المنحازة ومبادئه العنيدة وسيرته المكثفة وسيرة رفاقه المجهولين، ما سيجعل السلطات، بالأخص الديموقراطية منها، تنزعج، بل ترتجف، من حضور شخصية من هذا النوع في وسطها.
من بين القليل الذي نعرفه أن الشخصية هنا أصلية، من مواليد الواقع، بكل ما يحمله الواقع من وحشة وتناقضات. هي ليست من وحي الخيال ولا مُركّبة في كواليس الإنتاج. لذلك جورج عبدالله لا يحتاج إلى روتشة جمالية أو مبالغة «رامبوّية» في حجم الأفعال عندما يتعلق الأمر بمواقف وجودية حساسة، بل هو في حقيقته، صورة حقيقية عن البطل المعاصر. وعليه، في حالات نادرة كهذه، يأتي التعريف عن المعني بالأمر بالظاهرة. فلا بد إذاً، بما أن هذه الظاهرة مؤدلجة، ضبط رواجها، ولجم تأثيرها وكبح نسبة المشاهدة من خلال التضييق والانتقاء المُحدد تجنباً لما تشكله من «تهديد». وهذا ما يجعل الإشارة الزرقاء، تخرج عن طورها وتفعل فعلها خارج الشاشة، بل في صلب حياة جورج عبدالله، فيتبدى وجهها الحقيقي: سلطات الجواز الديموقراطي-الأخلاقي المزوّر، تتمادى بعيداً بفعلتها لتتخلى عن مهمتها المزعومة أي الرقابة، وتستبدلها كما تفعل الآن، بالحذف. تلف الماضي و«محاولة» محو البطل، في إبقائه حيثما يقبع حالياً، في السجن.
الوثائقي الجديد «فدائيين ـــ كفاح جورج عبدالله» (Fedayin) هو من إنتاج Vacarmes films (مجموعة من صنّاع الأفلام الوثائقية الملتزمين سياسياً بمحاربة كل أشكال الهيمنة) رفض التغييب والإقصاء المتعمد الممارس بحقّ جورج عبدالله في عصر قائم على المحتوى البصري، والقائمون على الفيلم يعلمون بكل تأكيد أن جورج عبدالله لم تتسعه الحياة، فمن بداهة الاعتقاد أن يتسعه فيلم.
وثائقي إخباري مكثّف في سرده للمعلومات التاريخية وفي شرحه للظروف الموضوعية التي شكّلت شخصية المناضل اللبناني


طبعاً، مثل أي إنتاج فني مستقلّ، لا يعترف الوثائقي بالعلامة الإرشادية، تلك التي تنصح بوجود الأهل أو الأخرى التي تعني سلطات القمع السياسية. بل هو على الضفة المقابلة منها. يأتي «فدائيين» ضدها بكل ما تحمله من سلطوية، ويفعل نقيضها، يتحداها حتى النفي، في تعريفه عن جورج عبدالله، وتبيان حقيقته، والإخبار عنه وعرضه في كافة المدن وعواصم العالم بغية تأصيل اسمه في النفوس. وبالمناسبة، ولو وجب التذكير: هو ليس بفيلمٍ بل وثائقي، والقاعدة هنا تختلف باختلاف طبيعة كلاهما. لذلك، فتمادي الرغبة بتلمّس بطولات جورج عبدالله، والتفاعل مع إرثه، بالمحاكاة عبر وسيط أدائي مرئي، سيتعقلن. ستُستبدل الرؤية المتعطشة للحماسة الثورية المصوّرة بالحجج والنظريات الثورية بالاستماع المتروّي للمسلك الثوري المستقيم. سنعرف عنه أكثر مما كنا نعرفه، لكن ليس بشكلٍ كافٍ. فالرفاق المجهولون بقوا مجهولين، والكلام عن فوهة السلاح كان مكتوماً، وبعض الأسئلة التي تتمحور عنه شخصياً، مثل التي عرضت أعلاه، لم توجد، فلم نجد لها جواباً.
باختصار، «فدائيين» هو سيرة النضال عموماً وسيرة نضال جورج عبدالله خصوصاً. هو كما جاء في التعريف: «قصة مصوّرة تسترجع رحلة شيوعي ومقاتل عربي لا يعرف الكلل من أجل فلسطين». ولهذا التشديد التوصيفي «مقاتل شيوعي عربي لأجل فلسطين» أهمية قصوى سنعلم مرده، بمجرد مرور دقائق قليلة، في أنّ المعني الأول لهذا العمل هو الجمهور الغربي. بيد أن هذا ليس نقصاً معيباً، أو عالة مُخجلة بل فعلةٌ مضيئة ضمن مهمة مقاومِة أخذها رفاق جورج عبدالله على عاتقهم في نقل سيرته، وكيفية تشكل هويته، من ساحة الأخبار الشفهية أو التقارير المنشورة في قصاصات الجرائد إلى فضاء الشاشة، وتعريفهم عن فلسطين، المحذوفة عن خريطة الجغرافيا واللسان من خلال شخص مرت فلسطين في سيرته الذاتية وتجسدت بشخصه.
من دون أي لمسة استشراقية، أو نزعة استطيقية خبيثة، جاء الوثائقي شبيهاً بسمات صاحبهِ. تحت خانة التصنيف بالمدرسة الواقعية الملتزمة، أتى «فدائيين» على وقع الموسيقى العربية يقودها العود، كوثائقي إخباري مكثّف في سرده للمعلومات التاريخية وفي شرحه للظروف الموضوعية التي تألفت شخصية جورج عبدالله تحت ظلالها... من مشاهد مسجلة حديثاً وأخرى أرشيفية قديمة، نُسج السياق كاملاً من خلال مقابلات مع شقيقيه موريس وروبير، ومحاميه، ورفاق آخرين له في النضال عربياً كخالد بركات منسق حملة «الحرية لأحمد سعدات»، وأجنبياً كالأسيرين اليساريين برتراند ساسوي (الخلايا الشيوعية المقاتلة) وجان مارك لويان (منظمة العمل المباشر) في خط سردي أفقي مستقيم لا يهتز، مترابط وتراكمي لا يمكن اختزاله بثيمة أو اختصاره بمحور، بل هو قائم على حقبة تاريخية كاملة كان جورج عبدالله في صميمها، وكانت بدورها في صميمه، في صميم عالم مسيّس للعظم.
إنها محاولة يخوضها الوثائقي لتشكيل سردية تاريخية، افتعالها وتركيبها لا كتابتها، لأن كتابة التاريخ أنجزها المنتصر، نقرأ فصوله في الحاضر الذي أدار أذنه الطرشاء لشكوك تحمل في طياتها يقيناً بمغالطات منطقية وإنسانية في هذه الكتابة. ولأن «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية» وقائدها كانوا ذوات فاعلة ومؤثرة مسكونين بهاجس الممارسة، فقد شكلّوا فعلياً، حقبة زمنية مُفتعلة من محض إرادتهم عنوانها: المقاومة المجنونة كالحلم الذي لا يعرف حدوداً. على أساس التشكيل هذا، وضع القيمون المنعطفات الجذرية التي قلبت المعادلة رأساً على عقب أمام المشاهد، بدءاً بالنكبة ثم النكسة، فالحرب الأهلية وصولاً إلى ثمانينيات الاعتقال والتحوّل من مقاوم إلى أسير سياسي. عمل منهجي قائم على الانطلاق من المسلّمة وصولاً إلى النتيجة. التذكير بالعلّة الأولى دائماً. عرض السبب والمُسبب وعدم إغفال أمرين أساسيين: التشويش ـــ الذي يوازي الكتابة ــــ على التاريخ الذي كتبه المنتصر. تشويش من قبل جورج عبدالله برسائله المبعوثة وتمسكه الصلب بماضيه ورفضه الاستسلام وافتخاره دائماً بمواقفه. والأمر الثاني هو طيفه الحاضر في كل مكان رغم إقصاء وجوده، من تونس حتى الأرجنتين، رغماً عن أنف حكّام الأرض، وافتخاره بالصفة التي يحملها: أسير سياسي، ليرى فيها فرصة ابتكار، فيسيّس السجن ويصبح فضاءه الذي يشتغل منه في السياسة.
من هنا، سينبّهنا «فدائيين» إلى أمرٍ نعرفه لكن لا نعرف كيف نصيغه. سيقدم لنا الصيغة التي نحتاجها لفكّ عقدة صعبة لفكرة سهلة، لا تتحرر سوى بشرط واحد؛ جملة بسيطة واضحة تقول: أسر جورج عبدالله هو أسر للحرية، بالتالي هو أسير الحرية. فمثلما أن صراع الأضداد هو محرك المجتمعات، لطالما كانت الحرية محرك الفرد. هي لعبة خيارين، إما التوق إلى الحرية إما تبجيل القفص. هو ديالكتيك يحفظه الشيوعي العربي غيباً، ويعلم أن في ظل لعبة الخيارين الشرسة، عليه أن يشدد على خياره ويُزعج خصمه، هكذا يسحب الجوكر من يده ويرميه على الطاولة: «لن أساوم سأبقى أقاوم».
إنها الطريق إلى الحرية إذاً، من على متن مركبة المقاومة. وهنا مسألة طرحها «فدائيين» لا تقل أهمية عن النقطتين أعلاه. نقطة تعود إلى البداية، تكمن في الخيار اللغوي الذي اتخذه القائمون على الوثائقي. «فدائيين» كما هم عليه، بكل ما للكلمة من معنى. يستهلّ الوثائقي جملته الأولى بالتعريف «لكن من هم الفدائيون؟ ومن أين ظهروا؟ إنهم أبناء الشعب المقموع، المحرومون من أرضهم ومن حقهم في تقرير المصير. هاجسهم تحرير فلسطين. كلمة فدائي مشتقة من فداء أي التضحية، أي موت الإنسان لأجل التحرر ولمستقبل الحرية».
إذا جاء في الحوارات المسهبة مع الشخصيات المستضافة أنّ تقاطع الحيز الموضوعي مع الميل الذاتي دفع جورج عبدالله إلى تشكيل مساره الخاص متبنياً نهج الثورة بكل ما تمليه من راديكالية، فإن عبارة «فدائيين» لا تتقاطع أو تتماهى البتة مع اللغة الفرنسية، حيث مرادفها عكس مدلولها. فهي بالنسبة لهم وحشٌ ضاري مطرود من المعجم، وفي المعاملات الرسمية والقضائية والسياسية، دلالتها الركيكة تعني الإرهابيين. لا يُشكل العنوان العربي المقلوب إلى لغة المستعمر ضربة أولى مقاومة تقدِم عليها جماعة «كوليكتيف» الفرنسية. إنها ترميز مكثف لهوية جورج عبدالله. إنها أيضاً العودة به إلى أصله، إلى جماعته. إضفاء شرعية على «الآخر» المقاوم والتعريف به عن كثب. إنها أيضاً لصق جورج عبدالله بالكل، بالجمع، كما كان وكما هو عليه وكما عمل طيلة حياته: فرداً من مجموعة خدمةً لهدف جماعي. أما الضربة الكبرى، فهي أن جورج عبدالله هرب من السجن ودخل الشاشة. سيؤدي البطل دور الفدائي (لا التباس هنا، فالفدائي هو البطل). وهذا سيكون كابوساً لقامعيه.

سيعرض «فدائيين» في الفضاءات التالية:
‎19:00 مساء اليوم في مسرح المدينة (الحمرا ــ بيروت)
‎الأربعاء 10 تشرين الثاني: 18:00 ـــ مركز الشهيد معروف سعد (صيدا)
‎الخميس 11 تشرين الثاني: 16:00 ــــ الرابطة الثقافية (طرابلس)
‎الجمعة 12 تشرين الثاني: 18:00 ـــ روضة القسام (برج البراجنة- بيروت)
‎السبت 13 تشرين الثاني: 19:30 ـــ برزخ (الحمرا ــ بيروت)