تونس | حالة من البهجة خيّمت على وسط العاصمة التونسية خلال الأيام العشرة من مهرجان «أيام قرطاج السينمائية» التي أعادت الجمهور إلى قاعات السينما التي كانت مهجورة بسبب «كوفيد ــ 19» وأيضاً بسبب تراجع الاهتمام بالفن السابع. «مهرجان قرطاج»، أعرق مهرجانات السينما العربية والأفريقية الذي اختُتم مساء السبت بإعلان جوائزه الرسمية والموازية، كان نافذة حقيقية على آخر ما أُنجز في السينما العربية والأفريقية من خلال عرض 700 فيلم بين روائي وتسجيلي وطويل وقصير. غالبية الأفلام التي عُرضت، جاءت وفيّة لروح المهرجان كمنصة لسينما التحرّر الاجتماعي والسياسي منذ ستينيات القرن الماضي، وكذلك لحقوق الإنسان وقضايا حرية المرأة والعدالة الاجتماعية. خلال الدورة الثانية والثلاثين التي انطلقت في 30 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، حظي أكثر من فيلم بحفاوة نقدية، لعلّ أولها الفيلم التشادي «روابط مقدّسة». في هذا الشريط، طرح محمد صالح هارون قضية «الشرف» في المجتمع التشادي وتراجيديا الأمّ العازبة في مجتمع مسلم محافظ، واغتصاب القاصرات. معاناة المرأة تبرز أيضاً في الشريط التسجيلي «كما أريد» للسينمائية الفلسطينية سماهر القاضي التي طرحت مكابدات المرأة في مجتمع ذكوري من خلال ما عانته النساء المصريات من تحرّش في الاحتجاجات التي شهدتها القاهرة أيام حكم الإخوان المسلمين. معاناة المهاجرات المغاربيات كانت موضوع فيلم التونسية الفرنسية حفصية حرزي «أم صالحة». بعدما شاهدنا ظهورها الأول كممثلة في فيلم «كسكسي بالبوري» (2007) لعبد اللطيف قشيش، تقدم حرزي سيرة مهاجرة تونسية تُدعى «نورة» تعيش في ضواحي مرسيليا الفقيرة، ويتورّط ابنها في قضية سرقة محطة وقود، فتضطر للعمل في البيوت من أجل مساعدته على الخروج من السجن.
القضايا العربية لم تغب عن الدورة. في الشريط التسجيلي «كابتن الزعتري»، يقدم المخرج علي العربي قصة مراهقين سوريين هما محمود وفوزي تلجأ عائلتهما إلى مخيم الزعتري في الأردن هرباً من الحرب في سوريا. لم يكن لهما من وسائل تسلية سوى لعب كرة القدم. يصل فريق قطري إلى المخيم، فيتم اختيارهما للمشاركة في فريق «أحلام سوريا». يخوض المراهقان التجربة في قطر ويتحولان إلى نجمين. وحين يعودان إلى المخيم، يعملان على تكوين فريق كرة قدم بما يملكانه من معارف بسيطة.
وككل دورة منذ تأسيس المهرجان لغاية اليوم، لم تغب فلسطين. شاهدناها في الدورة الحالية عبر وثائقي «فلسطين الصغرى» للمخرج عبدالله الخطيب الذي يرصد معاناة اللاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك على مدى أربع سنوات من الحرب السورية. ينقل الشريط حصار مخيم اليرموك وما عاناه الفلسطينيون المحاصرون من خلال قصة المخرج عبدالله ووالدته أمّ محمود وأستاذ الأدب الإنكليزي «أبو رأفت». ثلاث شخصيات من ثلاثة أجيال تتقاطع أقدارها في مخيّم محاصر هو صورة مصغّرة للفلسطينيين الذين يحاصرهم الاحتلال الصهيوني.
حافظ المخرج المغربي نبيل عيّوش في هذه الدورة على حضوره بفيلم «علّي صوتك» الذي قدّم رؤية لمقاومة العنف والتطرف بتمكين الشبان من التعبير عبر الفن والإبداع، خصوصاً موسيقى الهيب هوب والراب في ضاحية سيدي بن ميمون. ومن النوافذ التي فتحتها الـ «أيام» نافذة على السينما اليمنية بفيلم «لا ترتاح كثيراً» للمخرجة شيماء التميمي، والفيلم السعودي «من يحرقن الليل» لسارة مسفر الذي يحكي عن «تمرّد» المراهقات السعوديات.
وقد حصد فيلم «ريش» للمخرج المصري عمر الزهيري أربع جوائز في المهرجان هي: جائزة التانيت الذهبي لأفضل فيلم روائي طويل، جائزة التانيت الذهبي للعمل الأوّل وجائزة أفضل سيناريو، بالإضافة إلى جائزة أفضل ممثلة لبطلة العمل غير المحترفة دميانة نصار. الشريط الذي أثار ردود فعل متباينة مثلما حصل في «مهرجان الجونة» في مصر، عبارة عن فانتازيا اجتماعية تقدّم قصة أب يقيم عيد ميلاد لابنه، فيحضر ساحر ليقدم عروضاً للأطفال. ومن بين الفقرات التي يختارها الساحر لتسلية الأطفال، يدخل الأب في صندوق خشبي ليتحول إلى دجاجة. يحاول الساحر إعادة الأب إلى وضعه الطبيعي لكنه يفشل. الفيلم نقد ساخر للمجتمع وتعرية لمشاكل الفقراء ومعاناتهم. وليس بعيداً عن هذا الفيلم، اعتمد المخرج التونسي الشاب عبد الحميد بوشناق في شريطه الطويل الثاني بعد «دشرة» المقاربة نفسها تقريباً بالمزج بين الواقعي والغرائبي: فيلم «فرططو الذهب» هو قصة «معزّ» ضابط الشرطة الذي يعاني من مخلّفات نفسية بسبب طفولة قاسية وأب عنيف. يُفصل من العمل، فإذا بطفل يسلّمه رسالة من مجهول يطلب منه مرافقة الطفل وتمكينه من مشاهدة صور ساحرة قبل أن يفقد بصره. يرافق معزّ الطفل المجهول بين السحرة الذين يقدمون عروض الأطفال. الفيلم تمجيد للفن الذي لم يعد له جمهور في العالم العربي.
أخيراً، كانت تونس البلد الأكثر حضوراً في الدورة بـ 32 شريطاً من أبرزها «مجنون فرح» لليلى بوزيد التي طرحت قضية الهُوية والجسد في المجتمع العربي وسؤال الهوية بين شبان المغرب العربي في فرنسا. أما فيلم «عصيان» للجيلاني السعدي المتوّج بـ «التانيت البرونزي»، فقد قدّم ثلاث شخصيات تجمعها المصادفة أثناء الحظر الليلي. تتقاطع الحكايات ونتعرف من خلالها إلى هوة الفوارق الاجتماعية وعالم الجريمة والعنف والعقوق. وقد أثار الفيلم ردود فعل متناقضة بين الجمهور.
ومن الأفلام التونسية التي أثارت الانتباه الشريط التسجيلي «على خطاوي الحرف» لمحمد صالح العرقي. فيلم في تمجيد الشعر من خلال قصة مدينة دوز، التي تعدّ البوابة التونسية للصحراء الكبرى، وشغف سكّانها بالشعر. أما الشريط القصير «تقاعد» لسمير الحرباوي، فيقدم مأساة المتقاعدين من خلال قصة بسيطة لكن عميقة: عجوزان يعيشان في منزل ما زال محافظاً على بهاء قديم. تشتهي المرأة العجوز التي تعاني من المرض أن تعدّ الأكلة التقليدية «العصيدة» (أكلة من الطحين والزبدة والزيت)، فيحاول زوجها الاستدانة من تاجر المواد الغذائية، لكنه يرفض. يحاول الرجل تدبّر المبلغ البسيط ليحقق رغبة زوجته لكنه يفشل بعد جولة كبيرة في الحي. فيلم على قصره اختزل معاناة المتقاعدين الذين حوّلتهم صناديق التقاعد إلى متسوّلين بعدما منحوها أجمل سنوات أعمارهم.!
هكذا كان الخط العام لـ «أيام قرطاج السينمائية» التي نجحت في استعادة الجمهور والوفاء لجذورها.