لم يعلم أحد من هي، أو من أين أتت، في ذلك الصباح الشاحب حين لاحظها أحد المارة وهي تبيع الورد في الساحة المركزية للمدينة، وقف أمامها معجباً بجمالها إلى درجة أن الدموع انهمرت من عينيه، تلاه شخص آخر أتى لشراء خبز الفطور، وآخر كان في طريقه إلى العمل، ثم آخر كان في المقهى المقابل، وشرطي المرور، والشحاذ الذي ينام في الشارع، أتوا جميعهم ليقفوا أمامها مثل التماثيل، صامتين مأخوذين بجمالها.عند منتصف النهار، كان الجميع يقول أنها أجمل امرأة في العالم، فتكوّنَ صف طويل يمتد حتى آخر الحي، فقط لمشاهدتها وهي تبيع الورد، كل عابر سبيل كان يأتي وينظم إلى الحشد، دون أن يكلمها أحد، ولا حتى بكلمة إعجاب، كانوا فقط يراقبونها في افتتان ساحر، يبتسمون بين الحين والآخر، بأعين جاحظة.
مارسيل دوشان في محاكاة ساخرة للموناليزا. (تعديلات بالقلم الرصاص، 1919)

حين عادت إلى بيتها في آخر اليوم، سار العشرات من الناس خلفها، ناوشها إحساس غير مريح، فكانت تتوقف في استحياء بين الحين والآخر، فيتوقفون، ثم تعاود السير بخطى مسرعة، حاملة طعام عشائها في كتان حريري بين يديها، فيعاودون المشي، خطوة تلو الأخرى بينما غرباء آخرون، ينظمون إلى الحشد الغفير.
صعدت إلى منزلها القديم الطراز الذي اكترته حديثاً، وتناولت عشاءها وحيدة، وحين أرادت إغلاق ستائر نافذتها قبل الخلود إلى النوم، رأت أمام بيتها جموعاً من الرجال الواقفين في حلكة هذا الليل البارد، دون أن يصدروا أدنى حركة، وكانت على محياهم ملامح الانتظار في افتتان تام، فأسرعت مغلقة النافذة والأبواب والإحساسُ بالهلع يتعاظم داخلها، ولم يغمض لها جفن خوفاً من أن يقتحموا بيتها، فظلّت على حالها تتأمّل سكون الغرفة وهي تداعب شعرها، إلى أن أشفق عليها التعب ونامت.
استيقظت كعادتها فجراً، لكي تقطف الورود من غابة قريبة، فذُهلت بالحشد في انتظارها أمام باب بيتها، تبعوها حتى مكان التقاطها الورود، وظلّوا شاخصين أمامها يراقبونها وهي تقص أطراف الورد، وتُعده، ثم تبعوها حتى الساحة حيث اتخذت لها مجلساً قرب بائعات الفطير، بينما ظل الحشد يزداد شيئاً فشيء، حتى امتلأت الساحة مرة ثانية، لكن هذه المرة بكل رجال المدينة، الرجال في المقهى، الأساتذة، العاطلون، العمال في المعامل، حارس بوابة السجن خرج تاركاً الباب، وتلاه السجناء، محافظ المدينة، جميعهم أتوا بعد أن شاع خبر هذا الجمال الغامض الذي لم يشهد له أحد مثيلاً في الكون.
حين حل موعد الغذاء في ذلك اليوم، لم يعد أي رجل إلى البيت، وظلت نسوة المدينة جالسات على الطاولات في ترقب، والبخار يتصاعد من الأطباق الساخنة، قبل أن يخرجن إلى الأزقة بحثاً عن أزواجهن، كانت شوارع وأزقة المدينة قد فرغت من كل الرجال، وسرن في مجموعات صوب مركز المدينة، بعدما سمعن الخبر واعتمل الغضب داخلهن غير مصدقات. كانت الساحة المستطيلة الشاسعة، تؤدي إليها جميع طرق المدينة، فظهرت النسوة من كل الجهات وقد ذُهلهن من المشهد، كان مئات الرجال مجتمعين في الساحة، يراقبون الفتاة بلا أدنى حركة أو ضجيج، كما لو كانت الساحة فارغة، في صمت جنائزي كما لو كانوا ينظرون إلى معجزة.
قالوا إنها ساحرة ومشعوذة عبثت بعقول الرجال، لكن سحرها لم يكن سوى جمالها.
حاولت كل من النسوة أخذ زوجها، لكنهم كانوا مثل المسرنمين لا يكلمون أحداً، لا يتحركون ولا يرون شيئاً، سوى المرأة هناك، المذهولة من كل شيء.
اجتمعت النسوة في ذلك المساء، بكل ما لهن من كيد، تخطيطاً للقضاء على تلك المرأة، لم يعلمنَ هويتها، لا اسمها ولا أصلها، زُرْنَ السحرة دون أن يَجِدْنَهم، ومكتب رئيس المدينة لكنه كان رفقة الحشد، والقاضي أيضاً، وآمر السجن، لا فرصة لسجنها، أو لصدها، فظللن لأيام يراقبن رجالهن، الذين لم يعودوا للبيت قط، يمضين أيامهن يتبعنها أينما حلت، كانت تدخل الغابة لإحضار الورود، ويتبعنها وهي تشذبه، يقفن هناك، بلا حراك، يراقبنها، يراقبن عينيها في سحر لا نهائي.
الحقيقة أنها أيضاً، ربما قد تعجبت، كون لا أحد كلمها، أو حتى حاول لمسها. في الليالي الأولى كانت تطل من نافذتها، لتراهم واقفين هناك بلا نوم، ينظرون إليها، وخافت في بادئ الأمر أن يقتحموا بيتها، لكن لا أحد فعل ذلك، بل حتى أنها مع مرور الأيام، داخَلها الاطمئنان، وشعرت أنها أكثر أماناً بينهم، إذ صار الرجال يحمونها من نسوة المدينة اللواتي أردن إهدار دمها، حيث حاولن مهاجمتها من كل جهة وبشتى الطرق، لكن الرجال وقفوا سداً منيعاً لحمايتها. منذ ذلك اليوم، قيل أن الرجال قد فقدوا عقولهم بفعل السحر، فانقسمت المدينة إلى أشلاء، حيث اتخذت النسوة القلائل المتبقيات جزءاً لهن من المدينة، بعد أن هاجرت معظمهن لبدء حياة جديدة بعيداً، فاقدات الأمل في أزواجهن، في حين شكلت الفئة المتبقية مقاومة مسلحة، أما ما تبقى من المدينة، الفارغة بيوتها، فقد امتلأت شوارعها بذلك الطابور الطويل من الرجال ذوي الورود، الذي تقوده امرأة لا جمال يضاهي جمالها.
مع مرور الوقت، شاعت حكاية المرأة الجميلة في المدن المجاورة، ثم في شتى أنحاء البلاد، قبل أن ينتقل الخبر إلى شتى أنحاء العالم، بروايات عديدة اختلفت في كل شيء، إلا حقيقة جمال المرأة الذي لا مثيل له، فأخذ يحج إليها شتى أنواع الرجال من سائر الأقطار، فقراء وأغنياء، مفكرون وجهلة، عاقلون ومجانين، جميعهم أتوا، للانضمام إلى الطابور الطويل، الذي تجاوز طوله عرض المدينة، بل امتد إلى أن التقت مقدمته بآخره، في المسيرات الطويلة خلف هذه الغريبة بائعة الورود.
تساءل الجميع عن هويتها، حتى العلماء حيرهم أمرها، وكيف وقع آلاف الرجال في حبها، فقيل أنها مشعوذة وأنها تبيع الرجال ورداً مسحوراً، لكن حتى السحرة والدجالون، الذين أتوا لكشف سحرها وإبطاله، انتهوا بانتمائهم للحشد اللانهائي.
سمع الحاكم بالخبر، وطلب من بعض رجاله إحضار هذه المرأة، التي أوقفت سير مدينة بأكملها، أعمالها واقتصادها، واكتست طابع القدسية، ففوجئ بعد أيام بعدم رجوع أي من رجاله، فأرسل رجالاً آخرين، ليأتوا بها وبرجاله، ولم يعد أي شخص، فسار بنفسه، وانضم هو الآخر إلى الطابور مسحوراً بالجمال الأبدي، وانتظرت الملكة زوجها هي الأخرى، ومثل كل نسوة ذلك الزمان، قبل أن يصلها الخبر، فقدت بعدها كل رجال القصر اللذين أرسلتهم للبحث عن زوجها، كل الكولونيلات، والقادة، والجيش الذي خاض حروباً ضارية قبلاً، ابتلعهم الجمع بلا أدنى مقاومة.
في ذلك الحين، كانت شهرة المرأة التي يحج إليها الرجال، قد صارت عالمية، حتى أنه شاع في بعض البلدان المجاورة أنها مريم العذراء، أرسلها الرب لتأتي بمسيح زمانه، فسعى كل حاكمي الدول جاهدين من أجل الوصول إليها، لكنهم انتهوا بفقدان أفضل رجالهم بين الجموع، وقد كان الرجال الذي فقدوا آنذاك، أكثر من ضحايا أي حرب عرفها التاريخ، لا بالسلاح، بل فقدوا بدافع الفضول فقط، من أجل الوصول إلى الكمال ورؤيته حيث لا مكان آخر سوف تراه فيه إلا بين الجموع، إذ لم يعرف أي شخص هويتها، أو سنها، أو أصلها، ولم تكن لها أي صورة أو رسم، أو حتى وصف لمدى جمالها، فكان كل من أتعبته الإشاعات عنها وأضناه الهوس، وكل من يريد رؤية هذا الجمال، يأتي إلى المدينة وينضم للحشد الأبدي.
بعد أشهر، امتلأت المدينة كليّاً بالرجال، الملايين منهم، من كل الأجناس، والأديان واللغات، انفجرت الأزقة عن آخرها، والدروب، والحقول، وفوق الأشجار، الشرفات وحتى أسطح المنازل، حيث لم يعد هناك من مكان للمكان، كان الرجال الأقوياء يسيرون فوق أجسام الضعفاء لأن لا سبيل لهم، بعضهم لم يرى المرأة الجميلة إلا مرة واحدة في حياته، قبل أن يجرفه السيل، أو يصادفها من بعيد، أو يسمع أنها قد مرت في نفس الشارع لتناول الغداء، دون أن يتمكن من لمحها، قلائل من رأوها، لكن الحقيقة التي لا يطرفها الشك، أن معظمهم لم يرها أبداً. قيل إن هنالك سراً ما في عينيها يسحر الرجال، فقد كان يخيل للجميع أنها تنظر إليهم في أعينهم، جميعهم في آن واحد.
كما قيل إن هنالك شيئاً ما بابتسامتها الغامضة، حيث ظن البعض أنها ابتسامة فرح، والبعض الآخر بدت له ابتسامة أسى.
بعد أشهر، اندلعت الحرب، بعدما فشلت الحاكمة في استعادة زوجها من بين ملايين الرجال، أعلنت للعالم، بأن له الحق في الهجوم على المدينة، التي صاروا يلقبونها مدينة القديسة، وأن من يعيد لها زوجها الحاكم، وينهي هذا العبث الفالت من عقاله، بإمكانه الظفر بالقديسة حية أم ميتة.
شنت أقوى دول تلك الحقبة حرباً عظمى على المدينة، بعضهم أخذوا يقصفون المدينة من المدن المجاورة، حتى لا يفقدوا محاربيهم، في حظ عابث لتفريق جموع القديسة، البعض الآخر تدربوا لشن الحرب بمحاربين مغمضي الأعين، البعض الآخر شنوا الحرب جوا، وانتهى جنودهم برمي أنفسهم في بحر المتعة اللامتناهية بحثاً عن الجمال.
صارت المدينة خراباً وجثثاً، اجتاحتها النسوة، كانت المرأة الجميلة في طريق عودتها مساء، حين أخذت المدافع بيتها، ذعرت بعدما رأت الموت أمامها، فهربت بعيداً مخترقة جموع الرجال الذين ينظرون إليها غير مبالين بالمدافع التي تقصفهم حاصدة رؤوسهم، من طرف مغمضي الأعين الذي يطلقون النار على كل شيء، فاجتاح الصخب جيوش الصمت، كان الجميع يموتون خلفها وهم ينظرون إليها حاملين الورود بقبضاتهم، فظلت تجري بلا توقف، بلا وجهة، خائفة، مُخلفة الماضي يشتعل خلفها.
ليلاً، توقفت بعيداً عن المدينة، ورأتها وهي تُقصف وسط حرب دامية، وتساءلت عما يتحاربون؟ ولماذا دمروا جمال المدينة وسكونها، وفوضاها القديمة ذات اللحن البديع؟
أرخى الليل سدوله وفكرت في النوم تحت أحد الأشجار، ثم لمحت بعض البيوت المنزوية في أحد الحقول، فسارت إلى أحد البيوت العتيقة، ذي بوابة مزخرفة، لكي تقضي ليلتها هناك، صعدت الأدراج وهي تتأمل الجدران المزخرفة بالجص الملون والرسومات، فتحت الباب الخشبي المزدان، فرأت فناناً عجوزاً وسط رسومات ولوحات، وأوراق متناثرة، استدار ليراها، لكنه رآها، كما يرى الرجال العاديون النسوة العاديات، دون أن يتملّكه السحر!
دخلت، وسألته إن كان بإمكانه أن يأويها لليلة واحدة. لم يمتنع، بل إنه تجاهلها طوال تلك الليلة مشتغلاً في لوحته.
حكت له حكايتها، ثم سألها عن أي حرب تتحدث، قبل أن يطل من نافذته ويفطن أنه لم يغادر بيته منذ أشهر، كان شخصاً هادئاً، مسالماً ووحيداً، فظلت معه، تعيش معه بعيداً عن كل شيء، كان يرسم صامتاً طوال الوقت، وكانت هي تقضي أيامها في قطف الورود، ووضعها في إناء نصفه ماء، وتتأملها في الأيام التالية وهي تذبل في صمت.
وامتد القصف لسنين، ظلت خلالها أجمل امرأة في الكون، ترى حطام مدينتها والرجال، من نافذة الفنان أو حين تخرج مُلثمة لإحضار الطعام، وقد عاشت مع الفنان في بيته، حتى آخر أيامهما، لم يرها بعده أي شخص آخر، وحده فقط، اختبأت في بيته كما كان يخبّئ لوحاته عن صخب هذا العالم، ولم ير، أو يسمع، أي شخص في تلك السنين الطويلة، أي شيء، أو أثر لتلك المرأة التي سحرت الجميع، بلا أي أثر غير تلك اللوحة التي رسمها الفنان لها في إحدى ليالي أيامهما الأولى، والتي سوف تُكتشف بعد مرور عصور طويلة، لتسحر العالم بنفس سحرها هذا الذي اكتنفها وهي حية، حين طلب منها الجلوس، على كرسي وضعه أمام نافذة بيته المفتوحة، ثم أخذ يرسمها بأنامله المتجعدة، وآثار الحرب ورائها، توقف لحظة وتأمل عينيها وابتسامتها ثم قال بنبرته المشوشة:
ـ ذكريني باسمك ثانية. قالت:
ـ موناليزا
(*) من القصة القصيرة «مديح الجنون» الفائزة بـ «جائزة الرافدين للكتاب الأول»