يكتب الروائي اللبناني رشيد الضعيف (اهدن ــ 1945) في روايته الجديدة «ألواح» (دار الساقي)، بضع مشاهد من حياته، ويعدُنا بالمزيد، في بديهية الفكرة القائلة بأن الكتابة إذلال للنفس، وتعرية وإماتة لها: «أن تفضح نفسك الى هذا الحدّ المُذّل، أمر لا يتقبّلهُ الذوق دائماً. الحياة بحاجة الى النظافة والطهر والصفاء حتى يحلو عيشها. إن كشف الغطاء عن الدواخل قد يكون مُقرفاً ومُقززاً ولا يصلح للأماكن العّامة». صاحب «أوكي مع السلامة» و«تصطفل ميريل ستريب» الذي تُرجمت أعمالهُ الى أكثر من 13 لغة، يعرّي نفسه إذن لرغبته في التطهر من غصّات عالقات في الروح والجسد، تُدرك علاقته الأسرية وعلاقته العاطفية وعلاقته أولاً وأخيراً بنفسه وبما يُظهر ويُبطن. يُسمّي الضعيف كتابته «ألواح» لا «مشاهد» على سبيل المثال، كما لو أنه يرنو الى ناحية البراءة والى نوع من الكتابة المسمارية التي اعتمدها الإنسان القديم، قبل أن تُلوّثه الحياة بنواحيها كافة.
لم يأت السرد مُسطحاً أو محكوماً بالإطار الزمني للروي، بل خضع للاستعادات المزاجية

رشيد الضعيف الذي حدثت ولادته على ما يُخبرنا، في لحظة انفجار القنبلة الذرية في هيروشيما (1945) يكتب في كشف قاس عن حياة خاصة، حياته كما يعرض لنا بدءاً من ولادته في الشمال اللبناني مروراً بحياته في بيروت الحرب الأهلية وصولاً إلى مكابداته الغرامية. كتابة موّشاة بالنزاهة والصدق المؤلم الذي يدعو الى الإعجاب. الضعيف يعرف كيف ينكأ ما يؤلم، ويعرف كيف يزيح الضمادات عن جروح بائتة بشكل مُسّل. يُعطي صورة كاملة عن أغلب العمر لكاتب يتمتع بحيوية هائلة في جعل الهامشي من الأحداث، مفصلاً مُهماً يتوّقف القارئ عنده كما لو أنّه مفترق حاسم في مجريات السرد، ويقع على الحافة ما بين الحياة والموت. يكتب الضعيف في «ألواح» مفارقاً الى حد ما رواياته السابقة، عن الأب الذي لم يُحسن عملاً قام به، عن الأم الجميلة (ياسمين) المؤذية ببراءتها، عن الجّد الذي حببّهُ بالغناء، عن يوسف، الأخ الأكبر الذي فقد جزءاً من جسده، وعن ندوبه الشخصية جراء قذيفة كادت تطيح بحياته. كما يكتب عن شغفه الأقصى ناتالي الباريسية الحسناء التي هاتفتهُ من نيويورك: «تعال» فجاءها مشياً على سطح الماء.
في قراءتنا للكثير من «الألواح – المشاهد» التي تبين سرداً متقطعاً أحياناً، وأحياناً مُستدركاً، لم يكن لدينا سبب ما لنُدهش من تقسيمها الى مشاهد كثيرة، بل لعل التقسيم أفادها، فلم نر السرد مُسطحاً ومحكوماً بالإطار الزمني للروي، بل لعل التقسيم أفادها والاستدراك والاستعادات المزاجية جعلت هذا النوع من الاعترافات في إطاره الصحيح. الألواح متوازية وإن لم تكن متزامنة، وهي تفتح نوافذ سرّية على دواخل الكاتب، يحقُ له استدعاءها ومن ثم توظيفها في المشهد الذي يرتئيه مناسباً. الاستطراد في هذه الاعترافات يعزز مبدأ التأليف أكثر مما يضعفهُ.
هذه الاعترافات ـــ إن حسنت التسمية ـــ موضوعها الأساس يصّبُ في التساؤل الحياتي والوجودي. تساؤل هو في النهاية استنطاق لكلمات معينة (أمي، والدتي) ولبعض الكلمات بالمحكية اللبنانية، كلازمة وضرورية لأنها تؤشر الى طبقة وجهة ومريف ومدينة ومستوى اجتماعي... في محاولة الكاتب التأكيد على أن «ألواحه» مؤسسة في الدرجة الأولى على كلمات دالة وجوهرية ووظيفية، وهي عنده تشبه صفّ النغمات كما عند بعض الموسيقيين الكبار.
يصعبُ على بعض الروائيين العرب الذهاب بعيداً في اعترافات تطال نقائصهم، أو تعرية ذواتهم الى الدرجة التي قاربها رشيد الضعيف، سوى أن إصداره موضوع مقاربتنا هنا، نجح في إرساء مفهوم متقدم للاعترافات الجريئة، مغامراً الكاتب معها بالكثير من الأمور التي قد ترتد سلباً على بعض القراء، لكن الضعيف أهدانا جرأته تماماً كما يُبنى البيت على أعمدة صلبة ومتينة.