السوشال ميديا كلّها تنعي صباح فخري! لكن ربما التشابه في المفردات هو سيّد الموقف. الجمل والصور والمعطيات هي ذاتها، تنتقل من مكان إلى آخر! هكذا، كان علينا أن نبحث عمّن يقول شيئاً مختلفاً علّه يسعف الموقف. أو ربما في مثل هذه المطارح، يصبح من الترف المبالغ فيه البحث عن معطيات متفرّدة في مواجهة مهابة الموت وليس أي موت. لقد انهارت قلعة حلب اليوم! مع ذلك، كان لا بد من أن نجرّب البحث عمن يغني الموضوع بمعلومات أكثر من مجرّد مشاعر. سألنا المغني الصوفي بشّار زرقان الذي يدأب على تسجيل ألبومه الجديد، فقال: «صباح فخري صوته مكتبة من أنغام ومقامات، استطاع بهذا الصوت البديع أن يحمي إرثاً موسيقياً وغنائياً ثقيلاً وقديماً. امتد إلى العصر الوسيط. حفر مكانته في وجدان الناس، وساعد صوته الفريد مع حناجر عملاقة مصرية وعراقية وكويتية، أن يخلّد قصيدة «لمّا أناخوا قُبيل الصبح عيسهم» للشاعر المنسي الموَسوَس محمد أبو القاسم. وهنا يصبح مؤكداً لكل مستمع رصين، بأن صوت صباح فخري الخالد، تمكّن منذ ذلك الوقت من هزيمة الموت وسيبقى حاضراً في غيابه».أما الشاعر والصحافي السوري المعروف هاني نديم، فيسرد ببراعته الحكائية المعتادة: «حينما علم الملحن والموسيقي توماس بوفون بموت صديقه مغني الفلامنكو الأسطورة بيبي مارشينا، هرع إلى نوتاته الموسيقية ليراها: هل ما زالت موجودة أم انمحت من الدفاتر حزناً. هذا أول إحساس لي حينما علمت بموت صباح فخري. قلت: هل ستظل الألحان تدور في ما بيننا، الموشّحات، المواويل والقدود؟ كيف ستحتجّ يا ترى». ويضيف: «باللاشعور كتب كثيرون على صفحاتهم الشخصية: «انهارت قلعة حلب» وهو دقيق جداً في المجاز والدلالة والوقع. ومؤدّى دالّ دلالة لا ريب فيها، على تلك القيمة التي فقدناها اليوم. فقد حمل صباح فخري حلب وقلعتها في هذا الصوت الحصين المحصن بالعلم والمقدرة والإعجاز في كثير من الأحيان. أجل إنه صرح وانهار، أسطورة وغابت من بين ظهرانينا، مع عجز تام لأن نفعل لها شيئاً أو نحوّطها بدريئة ما تدرأ عنها الموت والإهمال والنسيان».
من جانب آخر، يبدي الشاعر السوري حزنه لأنه لم يتمكّن من الكتابة عنه في حياته كما يليق به. يقول: «السبب يعود إلى النقص بأدواتي الكتابية في الإحاطة بكلية كاملة من العلوم الموسيقية. كنت أتمنى لو أنني كتبت عنه وهو حيّ حتى أتجرأ وأقول إهمالنا له آخر أيامه عجّل في موته. ولن أكثر في هذا الجانب، فهذا أمر جارح للغاية. ستدبج مقالات المدح والتطنيب هذه الأيام كعادتنا في الوصول متأخرين إلى حفلة الحزن ومأتم التقدير. سنظل هكذا إلى أبد الآبدين، تنهار قلاعنا وصروحنا وأوابدنا قطعةً قطعةً من دون أن نلوي رقابنا لنرمم حزنها ونعالج أمراضها ونهتم بمسيرتها ونطلق أسماء المعاهد الموسيقية والشوارع والنصب على اسمها».
من ناحيتها، تقول المغنية السورية فايا يونان لنا «بالنسبة لي شخصياً، عشت طفولتي في حلب. يمكن القول بأن صباح فخري جزء أساسي من الحياة اليومية هناك. في التكاسي، والسيارات، وفي شوارع المدينة القديمة، وفي المحلّات والمطاعم، والبيوت والحفلات. سينبعث صوته. حتى لو لم يكن هو من يغني، ستكون أغانيه حاضرة. هو كوكب كامل. لأنّك من مدينته سيكون قد شكّل بصوته وأغانيه مساحة من لا وعيك. لذلك مجرّد أن تستمع لصوته، ستنتقل بالزمن إلى مشاهد أبهى وستعيش حالة كأنها واقعية، إلى درجة تشتم رائحة المطارح التي كنت تمشيها». وتضيف: «الرجل صنع لنا ذاكرة عائلية كاملة. في هذه اللحظة أثناء حديثي معكم، أتذكّر جهاز التسجيل القديم الذي كان يواظب والدي على سماع صباح فخري منه. هذا طقس مقدّس يمنع المساس فيه لأي سبب. غادرت حلب في الـ 11 من عمري وسافرت إلى السويد، تعلّمت اللغات، وبدأت محاولة الاندماج بعد سنوات. صرت أستمتع للموسيقى الغربية، لكنّ الهوية كانت قد تأصلت. لذا وجدت نفسي أعود بعدها لأواظب على استماع صباح فخري. كأنني جرّبت أن أجد نفسي خارج حلب من دون أن أتمّكن منذ ذلك، فكان الرجل مرجعاً حقيقياً رغم أنني صرت أسمعه من منظور آخر. كنت قد دخلت الجامعة في بريطانيا أيضاً، هذا يحرّضك لتكون منتمياً للمجتمع الذي تعيش فيه، لكن عندما يكون هناك شيء قد تجذّر فيك سيصير الأمر مختلفاً. في هذا الوقت، صرت أفهم القصائد أكثر. أتعمّق في الأغاني أكثر. أطّلع على المقامات. صار الموضوع بحثياً أكثر مما هو مجرّد حنين للطفولة!».
حديث فايا يونان يتّشح بالتأثّر الواضح حين تقول: «الأمر يبدو كمن عاد إلى بيته! الأمر مرهون بالروح لذا يصعب شرحه. صحيح أنني مغنية لكن لا أغني الطرب عادة، ومع ذلك صباح فخري باستمراريته وزخمه، مطرح لا بد من المرور فيه والتعلّم من مدرسته مرّة ثانية. هو كوكب مكتمل لا يمكن إغفاله ولو كنت بعيداً عن طريقته بالغناء. عدا عن أحاسيس الأغنيات، ميزته أنّه كلّما تسمعه، كلما شعرت بأن الأمور في كل العالم تسير على ما يرام بسلاسة مطلقة».