دمشق | انطفأت مدينة حلب، فانطفأ صباح فخري (1933ــــــ 2021)! لا أضواء تنير القلعة كي تنعكس في مرآة حارس تراثها الموسيقي الأصيل. فالمدينة التي شهدت تفتّح موهبة صباح «أبو قوس» نالت حصتها من مدفعية البرابرة، طوال سنوات الحرب، فصمتت حناجر مطربيها أمام أصوات القذائف، أو تقاسمتها البلدان لمصلحة «سمّيعة» آخرين، ليسوا بمقام الأصل. سوف نطوي صوت أحد الكبار في الأغنية العربية، ونستعيد شريط الأمس الذي لن يتكرّر بالألق نفسه. تحضر أولاً، صورة الفتى الذي عمل مؤذّناً في جامع، وعاملاً في مصنع نسيج، وحارساً في محطة وقود، من دون أن يتخلى عن شغفه بالموسيقى، متطلّعاً إلى ما أنجزه معلمو الكار من ملحّنين ومنشدين ومطربين أمثال الشيخ علي الدرويش وبكري الكردي وعمر البطش ومحمد خيري. هؤلاء وسواهم كانوا المدماك الأساسي لعمارة الموسيقى الحلبية، والمثال المشعّ للمنشد الشاب، قبل أن يغوص في سحر القدود الحلبية وأسرارها، بقصد إعادة صوغ التراث الحلبي بعين أخرى، فدرس الموسيقى، كما لو أنها نوتة مفتوحة على الاحتمالات، محطّماً السلّم الموسيقي التقليدي للقدود والموشّحات ومعنى الإنشاد. وإذا به يتحوّل إلى منجم موسيقي لا ينضب، وأرشيف للكنوز النفيسة، وقد أضاف إليها بصمته الخاصة والمفارقة. هكذا غادر المطرب الشاب حلب إلى دمشق، في خمسينيات القرن المنصرم، بمؤنة دسمة، فتلقّفه الزعيم الوطني فخري البارودي، وأهداه اسمه. ومنذ ذلك التاريخ، تعرّفنا إلى أيقونة صوتية نادرة باسم صباح فخري. في دمشق، انتسب إلى المعهد الموسيقي ليمزج التراث الحلبي بهواء الشام، وسيعبر مثل غيمة ماطرة نحو مسارح العالم. غيمة تهطل موسيقى وأنغاماً وسحراً، ما خوّله تسجيل اسمه في موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية بعدما وقف على المسرح عشر ساعات متواصلة. كان ذلك في مدينة كراكاس في فنزويلا، حين استبدّ به الطرب كعادته. نسي ابن السادسة والستين حينئذ الزمن، فمزج الليل بالنهار، وراح يتمايل على خشبة المسرح بانتشاء صوفيّ أخّاذ. ليس الصوت الأخّاذ وحده، هو مَن يجذب «السمّيعة» إلى أغاني صباح فخري، بل الحضور الشخصي للمطرب. ما إن يتماهى مع كلمات الأغنية حتى يبدأ الرقص بحركات مدروسة تشبه الدوران الصوفي. وإذا بالنشوة تستبدّ بالحضور في طقس غنائيّ فريد، فتصير عبارة «ليلي ليلي يا ليل» التي يكرّرها عشرات المرات من مواقع طربيّة ولونيّة متباينة، ومن مقامٍ إلى مقام، أغنيةً كاملة، تكشف أصالة صوته وعمق معرفته الموسيقية وقدرته الاستثنائية على جذب المستمع إلى صوته ساعات طويلة، من دون ملل أو تذمّر، في عصر صارت فيه الأغنية لا تتجاوز الدقائق.
«هات كأس الراح» في تلويناتها الصوتية والطربية، ستكشف حجم الإضافات التي حقّقها الراحل في تجديد التراث الغنائي الحلبي

ليس كلُّ ما في أرشيف صباح فخري أغانيَ تراثية صرفة (نحو 166 لحناً وأغنية)، كما يظنّ بعضهم، إنما هي نصوص خاصة به، وألحان أنجزها بنفسه، إذ لطالما تجاوز القالب الموروث نحو نبرة طربية تؤسّس لمذاق مختلف «إنّ ما حققته في غناء القدود الحلبية والموشّحات والأدوار، هو ثمرة رحلة طويلة وشاقّة، إذ كنت أول من عمد إلى تطوير التراث الغنائي الحلبي وإزالة الغبار عنه... كنت مثل الصائغ الذي يلمّع الجوهرة ليظهر جمالها بما يتناسب مع الذائقة العصرية، ولم أتوقف يوماً عن نبش التراث وتطويره» يقول.
اسم بمثل هذا الرنين، صنع تاريخاً شخصياً لن يتكرّر بسهولة رغم العقبات الكثيرة التي أفرزتها من موقع مضادّ موجة الأغاني المائعة التي قادت الأغنية العربية إلى الحضيض، لكنه في المقابل، كان يعوّل على صمود الأغنية الطربية وأصالتها في مواجهة الخفّة والانحطاط والجهل الموسيقي. ولهذه الأسباب عمل على توثيق أعماله الموسيقية والغنائية في موسوعة ضخمة سوف تحمي تراثه من الضياع، لقناعته بأن الموسيقى مثل المعادن بقوله: «هناك موضة من ذهب، وأخرى من معادن رخيصة تشوّه الذائقة». ويضيف: «الناس اليوم لا يصلون إلى أعماق الأشياء، إنهم يبقون في السطحية، وإن بقوا في السطح، فلن يكتشفوا جوهر الأشياء، وبالتالي يجب عليهم أن يغوصوا في الأعماق».
بخصوص صباح فخري، أحد آخر الكبار، علينا أن ننسى الزمن وننصت إلى رنين الصوت الآسر، إلى آخر ممرّات الحلم والنشوة والإبهار، كما لو أنه أسطورة مرتحلة وعابرة للأزمنة. أغنية مثل «هات كأس الراح» في تلويناتها الصوتية والطربية، ستكشف عن كثب حجم الإضافات التي حقّقها صباح فخري في تجديد التراث الغنائي الحلبي بحيث يستسيغه مستمع اليوم، وإلا فما تفسير الإقبال الكبير على أغانيه وإقامة حفلاته في ملاعب كرة القدم والساحات العامة؟ وقبل كل ذلك، الجلوس ساعات طويلة للإنصات إلى سحره الغنائيّ المتفرّد؟ رحل شيخ الطرب الذي جعل من الأَذان تحفة سمعية بصوفية أخّاذة، ومشى في درب حلب إلى آخر المسافة. برحيله طوى بلاداً بأكملها، لتعيش نكبتها الثانية.

* ينطلق موكب الجثمان صباح غدٍ الخميس من «مسشتفى الشامي» لتشيّعه دمشق ثم يتجه إلى المقبرة الحديثة في حلب حيث يوارى في الثرى. تُقبل التعازي في حلب في «صالة الأمويين» في 4 و5 و6 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي (من س: 18:00 حتى 21:00)، وفي دمشق في «صالة السعادة» في 8 و9 من الشهر نفسه (من س: 17:00 حتى 21:00).



سيرته في كتاب


يضيء كتاب «صباح فخري: سيرة وتراث» (هاشيت أنطوان ـ 2019) بتوقيع شذا نصار محطات أساسية في حياة الفنان الحلبي، وأحد أعلام الموسيقى الشرقية، عبر توثيق رحلته الطويلة من مسقط رأسه في حلب إلى مسارح العالم. كما تتطرق مؤلفته إلى نشأة صاحب «يا مال الشام» في حارة الأعجام في مدينة حلب، ثم في حي القصيلة حيث ترعرع وكبر، وصولاً الى مدينة دمشق التي أسهمت في نجوميته وانطلاقه نحو العالم.
وجاء في تقديم الكتاب: «منحه الخالق تكويناً جسدياً قادراً على إظهار الموهبة الخلاقة والصوت النادر، واعتمد على نفسه ليشقّ طريق المجد بعصامية، متخطياً الصعوبات كافة في طريقه نحو القمّة فوصلها وحده متحدّياً بصوته وأدائه العوائق كافة، ليرفع علم التراث الأصيل منتصراً، ويُتوّج ملكاً على عرش الغناء الشرقي بجدارة لا تُضاهى». يقول صباح فخري لمحاورته في الكتاب إنّ أهله اكتشفوا صوته للمرة الأولى عندما كان رضيعاً. ويروي أنه لدى ولادته وفي عمر الشهر الواحد، كان أحد أقربائه يتعمّد إيقاظه عبر «قرصه» لأنه يحب سماع صوته حتى وهو يبكي. فقد كانت لديه نغمة خاصة في البكاء. وتذكر الكاتبة أن أول أدواره القديمة كانت من ألحان سري الطنبورجي وهو حمصي المنشأ سكن في دمشق وعمل بائع أحذية. وتقول الأغنية: «أنا في سكرين من خمر وعين/ واحتراق بلهيب الوجنتين/ لا تزدني فتنة بالحاجبين/ أنا في سكرين». وقد غدت هذه القصيدة ملتصقة باسم صباح فخري بعدما أضاف إليها من روحه في اللحن والكلمة.