في أحياء حلب القديمة، وتحديداً في «حيّ السبيل»، يربض بناء فرنسي أثري عسكري، ترك الانضباط الصارم علاماته على جدرانه. المبنى كان يقبع كشاهد عاين تعاقب الحضارات على بلاد وصلت إلى ما هي عليه اليوم. في داخل المبنى، كانت مجموعة من الشباب السوريين الذين يؤدون خدمة العلم الإجبارية، يدخلون في جدل ونقاش حول تاريخ الفن خلال أمسياتهم الطويلة. كانوا طلاّب «بافاروتي حلب»، ورأيهم واضحاً كالشمس إذا أرادوا أن يقارنوا جيل العمالقة في مصر ولبنان، بمن يجاريهم في سوريا. الجواب: صباح فخري. حتى أسمهان وفريد الأطرش أخذتهما مصر بشكل أو بآخر، خلافاً لـ «قلعة حلب الثانية» الذي ظلّ منسجماً مع لون محلي عريق. هكذا، لو بحثت بدأب في سوريا عن معادل للعمالقة، لن تجد غير صباح فخري كزوّادة مُترفة بالغنى والأصالة. صاحب الطريقة الفنية، ومؤسس المدرسة الطربية والأيقونة المرجعية في سوريا، رحل وهو يشعر في داخله بشيء من النكران، فأنصفه الوجدان الجمعي للأجيال المتلاحقة، وبدّد له أي تقصير رسمي أو نقابي في مواكبة خطواته. آخر حديث بيننا كان قبل سنتين تقريباً في «مكتبة الأسد»، يوم كانت شذا نصّار توقّع كتابها «صباح فخري: سيرة وتراث» (هاشيت أنطوان) بحضور صاحب «خمرة الحب» وابنه أنس. إلى جانب حضور رسمي وعدد قليل جداً من الوجوه الفنية، قال لنا بتثاقل من بدأ يستسلم للمرض والكبر: «إذا كان هناك من يحرص على إرثي الغنائي وأسلوبيته، فعليه أن يدرّسه ويضعه ضمن المناهج الموسيقية في جميع المدارس. أما بخصوص النكران الذي تحدثتم عنه، فيكفيني من حضر اليوم لأنّ الزمن كفيل بإنعاش من خانته ذاكرته وتذكيره كيف كنت أتعاطى مع الجميع عندما كنت نقيباً للفنانين».لم يكن صباح فخري مجرّد مطرب يجذب الناس بصوته، بل كان حالة متكاملة، يصوغ دهشة حركية برفقة الصوت الآسر. كان يلفّ المسرح بدوران صوفي، وحركات مدروسة تنسجم مع تلوينه بالإيقاعات والمقامات الموسيقية التي يجيدها بطريقة ساحرة... ولو اهتزّت في بعض المواقع الصورة المعروفة عنه بسبب ظهورات غير موفّقة كشفت حالته الصحية المتهالكة، ما أثار موجة سخط واسعة وحملة انتقادات عنيفة بحق ابنه أنس «أبو قوس»، على اعتبار أنه «لا يكترث لحالته المرضية ويحاول أن يوازي شهرته بوالده من خلال هذه الطريقة البائسة» وفق المنتقدين!
في كلّ الأحوال، تخسر البلاد مع رحيل صباح فخري، منجم أحجار نادرة. مقتنياته تعادل الدهشة بأبهى أحوالها، من دون أن يكون هناك توثيق ربما للمعطيات الفنية التي يعرفها صباح فخري وحده، وكان يجب توثيقها، فالرجل ليس فقط موسوعياً بمنجزه الفني فقط، بل أيضاً بمعلوماته الأرشيفية!