لا يمكن لأجواء التصوير المهيبة، والألوان الصحراوية وأداء بعض الممثلين الممتاز، إنقاذ فيلم دوني فيلنوف من سذاجته الاستشراقية البغيضة، وتلفيقه المسيء لصورة غرائبيّة غامضة عن الشرق العربي. صورة مستلّة من دون ذكاء من تراكم هلوسات المخيال الغربي الكسول لعقود في الأدب والمذكرات والدراسات والأفلام وألعاب الفيديو ونشرات الأخبار: جنس غربي متفوّق، معتاد على حكم النخب الفاسدة على رغم آلاف السنين من التقدّم التكنولوجي في مستقبل البشريّة البعيد، تعبث بعقله أوهام توراتيّة عن مسيح آت، أبيض وسيم وحكيم، سيحكم عالماً بدوياً متخلفاً يعيش في قلب صحراء قاسية لكنّها تحتضن ثروات هائلة، بهارات أو نفط لا فرق. كأنّك تستمع في ظلام قاعة السينما إلى سرد مستشرق سكّير مصاب بالحمى لحكاية لورنس المستعرب وقد خالطتها هلوسات المرض
لا يبدو أن الغرب سيبرأ أبداً من استشراقه البغيض. على رغم كل تقدّم مزعوم في العلوم الإنسانية والاشتباكات المتعددة الجبهات على الأرض من أفغانستان إلى سوريا ومن ضفاف الخليج إلى اليمن ومن قاعدتها المتقدّمة في فلسطين إلى ليبيا وصحراء الساحل، ما زالت الإمبراطوريّة الأميركيّة ــ عبر أدواتها الثقافيّة والإعلاميّة ــ تعيد إنتاج الصور النمطيّة ذاتها المتخيّلة عن الشرق كما رسمها الرّحالة والجواسيس الأُوَل في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. هذا أمر لا يحدث بالمصادفة بالطبع، فهو يخدم بإخلاص التوجهات الإمبرياليّة للغرب، ويتناغم مع ثقافته الأصوليّة التوراتيّة الجذور، بينما يكرسّ على المقلب الآخر استمرار حكم السلالات العربية المتخلّفة والكاريكاتوريّة لأجزاء كبيرة من بلاد الشرق.
فيلم Dune بجزئه الأوّل (155 دقيقة) يأتي تماماً في هذا السياق. هنا مجموعة من العقول الغربيّة المغلقة بقيادة المخرج دوني فيلنوف، لفّقت حكايا «حرب النجوم» ومذكرات لورنس المستعرب، وصور الشرق في الإعلام الأميركي منذ 1979 (لحظة التورّط في المؤامرة لإسقاط حكومة أفغانستان الاشتراكيّة) لتقديم قراءة بصريّة محدّثة لرواية فرانك هيربرت التي تحمل الاسم نفسه (صدرت في 1965). مصادر هذا التلفيق المتفاوتة تشترك مع الرواية الشهيرة في سمة ثقافيّة واحدة: تلك النظرة الاختزاليّة المنحازة تجاه الشرق العربي الإسلامي. نظرة تخلق من فتات حقائق وقطع أحلام، صورة متخيّلة عن شرق يكاد يكون نقيضاً تاماً للهويّة الغربيّة.
يتم تأسيس عناصر الفيلم سريعاً كمؤامرة مترامية الأطراف تتنافس فيها قوى (غربيّة) متقدّمة تكنولوجيّاً وتهيمن عليها إمبراطوريّة فاجرة. لا نستغرق وقتاً طويلاً لنتعرف إلى شخصياتها الرئيسة وطبيعة الصراعات المتوقعة بينها في إطار الاستعمار المتعاقب لكوكب «أراكيس» حيث تجري معظم أحداث الفيلم. سلالة أترايديس يقودها الدوق ليتو (يؤدي دوره أوسكار إساك) وزوجته الليدي جيسيكا (ريبيكا فيرغسون) المنتمية إلى سلك سريّ من الدّماء الزرقاء يتم تناقل جيناته عبر النساء، وابنهما بول (تيموثي تشالاميت)، الأمير الشاب الذي تجري في عروقه الدماء الزرقاء ويبحث عن تحقيق ذاته ويحمل ضمناً ما يؤهله للعب دور المنقذ الأبيض والمسيح المخلّص لسكان «أراكيس» المحليين. «أراكيس» الكوكب، الذي يعرف أيضاً باسم Dune (أو بالعربيّة ما يعادل الكثبان الرملية)، تغطّيه بأكمله صحراء قاحلة تسكنها ديدان رمل عملاقة. كأنها تفسير خزعبلاتي للعواصف الرمليّة القاسية التي وصفها الرحالة المستشرقون، ويتناثر في جنباته عرق من السكان المحليين البدو (ذوي العيون الزرق على نسق صورة الطوارق في صحراء الساحل في أفريقيا) ويسميهم الغزاة بالـ«فريمن». الإمبراطوريّة تعتمد على كوكب أراكيس في استجلاب مادة من البهارات (ميلانج) يتم استخلاصها من رماله، لتستخدم كوقود لحركة المركبات الفضائيّة بين المجرات، وكمخدّر أيضاً. ونعرف بأنّ إرادة الإمبراطور قد منحت حكم الكوكب ومهمّة استخلاص الميلانج إلى سلالة أترايديس، بالتالي استبدال وكيلها السابق سلالة هاركونن الكئيبة، بقيادة البارون القميء فلاديمير (ستيلان سكارسغارد). النظرة العامّة لسلالة أترايديس تجاه بدو الفريمين، هي خليط من الفوقيّة وازدراء الآخر وصلف العسكريتاريا، ولو ادعى الدوق ليتو بداية بأنّه يريد بناء علاقة تحالف معهم، فذلك غلاف برّاق لعلاقة استغلاليّة هدفه تقليل مقاومتهم لعمليّة النهب المنظم لمواردهم. هو أمر لا خلاف عليه بين الأب والابن (كما لو كنا نشاهد أجيال سلالة بوش السيئة الذكر)، فيما تخبرنا شخصيّة شاني من السكان المحليين بأنهم وهم يراقبون رحيل مستعمرهم السابق، كانوا يتساءلون عن هويّة مستعمرهم الجديد، كأنّهم شعب لا يمكنه تخيّل إمكان العيش بحريّة واستقلال حقيقيّ.
الرّواية والفيلم لا وزن لهما إطلاقاً من دون الثيمة الاستشراقيّة التي يحملانها


الأسماء والمفاهيم الأساسيّة في الفيلم مأخوذة من السلسلة الروائيّة التي وضعها هيربرت مستلهماً حكايات حروب منتصف القرن التاسع عشر بين روسيا الإمبراطورية والقبائل المسلمة في القوقاز، لكن كوكب أراكيس أصبح، في الفيلم وفي القراءات المعاصرة للرواية، صورة معممة للشّرق كما في أي صراع تاريخيّ مع الغرب. وبينما تبدو النسخة السّابقة من فيلم Dune التي قدّمها ديفيد لينش (1984) متطابقةً تماماً مع مناخ الصراع في أفغانستان في تلك الحقبة بين القوات الأميركية والسوفياتية، فإن نسخة الإصدار الجديد لفيلنوف أقرب للحروب الأميركيّة المستمرّة منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 بمسحتها العقائديّة الفاقعة.
القليل في المؤامرة الأساسيّة كما في الرواية يحتاج إلى تغيير. لذلك، فإن تركيز فيلنوف كان على اختزال تاريخ متراكم من الصّور والقصص المتخيّلة عن الشرق وفق المخيال الغربيّ في التفاصيل، لا سيّما البصريّة منها، ليس فقط كوسيلة للتعليق على المنطقة موضوع الاستعمار، ولكن أيضاً - وكما يليق بمستشرق كلاسيكيّ - لإعادة تأكيد مفهوم الغرب عن ذاته.
وإذا كانت شخصية الجاسوس البريطاني توماس إدوارد لورنس الشهير بلقب لورنس المستعرب (1888 – 1935) مصدر إلهام جزئي لهيربرت في الرواية، فإنّها تكاد تتجسّد في الفيلم في شخص بول أتريديس، الذي يرتدي، كما لورنس، ملابس صحراوية مناسبة مناخيّاً وثقافياً، تحضيراً لدخوله عالم بدو الفريمن كمنقذ غربي أشقر لهم. وكما لورنس الذي درس ثقافة الشرق بتعمّق قبل انخراطه بها بكل جوارحه، فإنّ بول يقضي وقتاً مطولاً أمام نظام معلومات استرجاعيّ متطوّر ـ إنترنت – يقدّم له خلاصة المعرفة عن ذلك الشعب «المتوحش»، الذي يظهر لاحقاً كمجرّد خلفيّة في الفيلم: مجموعة متجانسة في الغالب، تحجب وجوهها، فلا تظهر منها سوى العيون. أسلحتها متخلّفة وتقليديّة (سيوف وخناجر..)، خبيرة بمسالك الصحراء الغادرة، مع ملامح خاطفة عن الأساطير الدينيّة التي تؤمن بها ومنها نبوءة ظهور «المهدي»، التي تمهّد الطريق لتقبّل بول العرّاف الأبيض. كما نبيّ، تأتيه الرؤيا في الليل، فتأتي ناصعة كفلق الصبح!
Dune الرّواية والفيلم كلاهما لا وزن لهما إطلاقاً من دون الثيمة الاستشراقيّة التي يحملانها، وتحوم حولها مزاجات السرد والحبكة والشخصيّات والحوار فيهما. ولذلك، فإنّ السبيل الوحيد للمشاهد الذي يريد أن يتخلّص من وعثاء هذه الديناميكيّة القبيحة التي تحكم كل إنتاجات هوليوود عن الشرق، التعامل مع فيلم فيلنوف باستبعاد أدوات السينما التقليديّة منه (وجوه الناس وكلماتهم ومشاهد المعارك المفتقدة للروح) وتقبّله منتجاً بصرياً محضاً من أفلام الخيال العلمي والتأمل حصراً في إبداعات المخرج المبهرة عندما يلتقط علاقات ظل الشمس بظلال العمائر الهائلة، والمركبات الحربيّة الأنيقة التي تمخر عباب صحراء لا ترحم، والآلات الصناعية الهائلة لاستخراج الموارد الطبيعية من تحت الرمال. في 155 دقيقة، ثمّة كثير من الوقت للاستمتاع بمثل هذه المشاهد عندما تتضاءل الشخصيات الفردية وتتراجع السرديّة لتترك المجال أمام تضاريس الصحراء لتحكي قصتها الخاصة، وتعيد أوهام البشر وطموحاتهم الأثيمة إلى مكانها الطبيعي الباهت، وتمنح في ذات الفيلم لحظات – مؤقتة - من السموّ الحالم.
Dune كأنّه محاولة بأدوات سينما القرن الحادي والعشرين لتجميل منتج أدبيّ ذي وجه قبيح ينطق بلسان الاستعمار ويمجّد المنقذ الأبيض، انتهت تماماً حيث بدأت: داخل ذات التقاليد الاستشراقيّة الغربية في تناول الآخر، ذلك الغرائبي، والغامض، والمتوحّش، والساحر، والنقيض أيضاً. ولا شكّ في أنّ تجاوز ذلك المخزون الثقافي الغربي المسموم يحتاج إلى شجاعة فائقة ومعرفة تتجاوز السطحي والمسموح بتداوله، وهما أمران لا يمتلكهما دوني فيلنوف على رغم عبقريته الفنيّة، وإن امتلكهما، فلن يجد «وورنر براذرز» أميركيّة واحدة تنتج له عملاً.

Dune
في الصالات اللبنانية