استسلم جسد المفكّر المصري حسن حنفي (1935-2021) في وقتٍ كان فيه العالم العربي مشغولاً بـ«مهرجان الجونة السينمائي». اعتقد بعضهم أنّ رحيل مفكّر من حجمه كان سيُوجّه الإعلام وقنواته من البحر الأحمر تجاه مدينة القاهرة في «صمتها» الرهيب لتسليط الضوء على معالم مشروع ناقِد الاستشراق ومفكّر علم الاستغراب ومُجدّد التراث العربي ومُنظّر فكرة اليسار الإسلامي، والمُدافع بقوّة عن الإسلام الحضاري، بعيداً عن نظيريه السياسي والطائفي. لا شيء من ذلك حدث. قد يستغرب المرء فظاعة الصمت الذي اكتنف رحيل حسن حنفي. الثقافة العربيّة بدت كأنّها تُمارس موضة سلفيّة في حقّ رحيل مثقّفين ومُفكّرين، من دون أنّ تُفكّر مؤسّسات مصرية وغيرها في فتح النقاش أكثر بين الباحثين العرب حول قدرة حسن حنفي على تجديد طبيعة الفكر العربي المعاصر في قضايا وإشكالاتٍ تتعلّق بالهويّة والنهضة والحداثة والإسلام والتراث واليسار. صاحب «اليمين واليسار في الفكر الديني» ينتمي إلى طليعة المُفكّرين العرب الذين راكموا متناً قويّاً في إرساء فكر متماسك مع التراث العربي الإسلامي، مثل المغربي محمّد عابد الجابري (1935-2010) والتونسيّ هشام جعيط (1935-2021) والجزائري محمّد أركون (1928-2010) والسوري الطيّب تزيني (1934-2019)، لكن كلٌّ من وجهة نظرٍ مُحدّدة ومُتباينة إلى التراثين الفلسفي والتاريخي العربيين. إلاّ أنّ ارتكاز حنفي إلى إشكاليّة الغرب والعرب ونظرتهما المُتقاطعة إلى مسألة تجديد التراث، تجعله الأكثر غزارة على مستوى الموضوع. المُلاحظ في هذا الجيل العربيّ، أنّه لم تُحرّكه فقط دوافع فكريّة وذاتيّة إنّما مَشاغل إصلاحية وهمّ قومي تتمثّل في تأصيل المشروع القومي العربي وخلخلة مُرتكزاتٍ وجملة تصوّراتٍ وأفكار مُترسّبة في بنية التفكير العربي الإسلامي منذ العصر الوسيط. مشاغل تهدف في الأساس إلى تقديم قراءاتٍ مغايرة للتراث العربي من وجهة نظرٍ تُعلي من قيمة العقل وتحجب كل تفكير ميتافيزيقي. لقد انتمى صاحب «في الفكر الغربي المعاصر» (1977) إلى زمنٍ لم تكُن فيه العولمة («الإنجيل الجديد» كما يُعرّفها المفكّر سمير أمين) قد بدأت تكتسح الطوبوغرافية العربيّة. آنذاك بدا الفكر العربي الحديث كأنّه معنيّ أكثر بمفهوم الإصلاح السياسي أكثر من مراجعة الموروث الفكري العربي، بخاصّة أنّ النّظرة السياسيّة المحضة ظلّت محكومة بطبيعة السياق السياسي والظرفية التاريخيّة الاستعمارية التي انتمت إليها المنطقة العربيّة. إذْ بقيت تحكم التراث العربي، المرجعية الإسلامية من طرقٍ وآلياتٍ وميكانيزمات في صناعة أفكارٍ كانت غربية بامتياز. لكن مع تدويل التراث العربي واستفحال ظاهرة العولمة، غدت الكتابة العربيّة، فلسفة وتاريخاً، تروم إلى إحداث قطيعة منهجية في النّظر إلى التراث العربي جرّاء دخول مفاهيم غربية في مقاربة المفهوم (المنهج الماركسي مع حسين مروة والطيّب تزيني مثلاً) تقوم على ابتداع مشروع فكري جديدٍ يُوازي في خطابه بين أصالة الثقافة العربيّة الإسلامية وحداثة المنهج التاريخي الحفري المُستمدّ من الغرب.
اعتبره الإسلاميون مثقّفاً يسارياً، واليساريون مُفكّراً إسلاميّاً تنبثق أفكاره ومواقفه من المرجعيّة الإخوانية


ما نرغب تأكيده في هذا السياق، أنّ دخول مفهوم العولمة في ثنايا الخطاب الفكري العربي، جعل هذا الفكر نفسه منذ الخمسينيات يُغيّر مسار رؤيته ونسق تفكيره ونظرته إلى التراث العربيّ وتاريخه، متوقّفاً عند إمكانية تحصين هذا الموروث الثقافي العربي. على هذا الأساس، طالعنا منذ الثمانينيات مفهوم «الأمن الثقافي» للمُفكّر المغربي عبد الإله بلقزيز، كواحدٍ من المفكّرين العرب الذين لامست كتاباتهم مؤلّفات حسن حنفي على صعيد مفاهيم التجديد والتراث والعروبة والإسلام والهويّة، وتقاطعت في أحيانٍ كثيرة على مستوى المنهج أو الخلفية الإبستمولوجية التي أسّست مسار كل واحدٍ منهما. في «الأمن الثقافي»، يدعو عبد الإله بلقزيز إلى ضرورة تجديد التراث وتحصين تاريخ الثقافات الوطنية من التشتّت والانحلال في ثقافة الآخر، حيث غدا مفهوم الهويّة مُهدّداً، لا من الغزو الكولونيالي فحسب، كما حدث بين الثلاثينيات ومطالع ستينيات القرن الماضي، إنّما هذه المرّة من لدن العولمة وقدرتها على الاستفحال داخل الثقافات المحلّية وتفكيك لغاتها وآدابها وفنونها. أيْ كلّ ما يضرب في صميم الهويّة العربيّة، بما يُميّز خصائصها وتمظهراتها داخل النسيج الثقافي. لكن عند حسن حنفي، تتخذ مسألة العولمة أبعاداً مُغايرة، فهي عنده نتيجة سياقاتٍ تاريخيّة، تحمل في نظره صورة «استشراقيّة» تهدف إلى تثمين سيطرة الغرب على العرب ومدن الشمال على الجنوب، بما يجعلها تكتلاً اقتصادياً قويّاً مبنياً على ثقافة الترفيه والصورة والاستهلاك. ذلك أنّ أخطر ما قد يُواجه العرب في نظر حنفي هو تلاشي وإمحاء هويّتهم الثقافيّة الرمزية وذوبانها في ثقافة الآخر الغالب. لذلك يطرح في كتابه المُشترك مع صادق جلال العظم «ما العولمة؟» (....) إمكانية الحديث عن مقاربة نوعية لظاهرة العولمة من زاوية إسلاميّة بما أنّها ظاهرة تاريخيّة.
أوّل ملمحٍ فكري يستمدّه المرء من قراءة أعمال حنفي، أنّها شديدة التدقيق في قضايا ومسائل شغلت المُفكّرين العرب. ذلك أنّ القارئ لنتاجه الفكري، لا يُمكن إلاّ أنْ يندهش من قدرته على المغايرة والاختلاف في بسط قضايا التراث والتجديد. والحقّ أنّ حنفي، قد يكون أكبر مفكّر إسلامي عرفته البلاد العربيّة، خاصّة أنّ حجم مؤلّفاته الفكريّة والتاريخيّة ذات النفس التسلسلي تحتل مكانة هامّة ومركزيّة داخل الأنساق العربيّة، بوصفها مشاريع مُركّبة يتمازج فيها الفكري بالتاريخي والأنثروبولوجي بالسوسيولوجي. لكنّها في النهاية تشكّل كتابة واحدة ذات ملامح معاصرة تغوص في التراث العربي القديم، لكنّها لا تذوب وتتلاشى في غيبوبة ماضيه. ذلك أنّها تبقى متيقّظة، حذرة، ممسوسة تجاه الانتماء إلى الحداثة والمناهج الغربية المعاصرة، التي تسلّح بها في رحاب جامعة «السوربون»، حيث درس وتتلمذ على يد أقطاب الفكر الفلسفي الفرنسي. هذا ما يتبدّى جيّداً في أعماله الفكريّة، التي ظلّ يُقارب فيها التراثين الغربي والعربي بكيفيّة مُوازية وبوعي علميّ مُتسلّح بنقد مزدوج يجد زخمه المعرفي في فكر الاختلاف. وبسبب هذه الحصانة المعرفية وحسّه النقدي تجاه قضايا التراث، ظلّ الرجل أكثر المُفكّرين تهميشاً ونفياً داخل مصر. تم فصله عام 1981 بسبب معارضته لما اصطُلح عليه آنذاك بـ «معاهدة السلام» بين مصر والاحتلال الصهيوني، ما جعله يُسافر صوب فاس المغربيّة وينخرط في التدريس الجامعي، قبل أنْ يُغيّر وجهته صوب اليابان ويعود إلى جامعة القاهرة، بعد تعيينه على رأس شعبة قسم الفلسفة.

تفكيك ثنائية «تراث/ تجديد» حصّنه بإطارٍ مفاهيمي ومنطلق معرفيّ، يجعل التراث قاطرة في خدمة الواقع (اللوحة لأرت بول ـ من دون عنوان 2 ـ باستيل على ورق ـــ 1991)

عُرف عن حسن حنفي ميله إلى صيغة المواءمة والتركيب بين التراثين العربي والغربي وتحديد مدى تقاطعاتهما، لكنّ ذلك لم يشغله عن توجيه نقدٍ لاذع للكتابات الاستشراقية داخل مدرّجاتٍ ومُؤتمراتٍ وندوات ومجلات وجرائد ومواقع، بقي يكتب فيها لغاية وفاته. ما يُفسّر ذلك الشعور المُلغز الذي واجهه وهو طالب حين تخرّج من جامعة القاهرة وأراد السفر إلى باريس للانخراط في المشروع الحداثي الغربي، قبل أنْ يتلقّف أدواته ورؤاه ويعود إلى مصر لصياغة مشروعه الفكري الخاصّ بالتراث والتجديد، حتّى يُصبح ذا قوّة شعبية وسياسية، لا سيما أنّ حنفي آمن بأنّ نجاح مشروع فكري، لا يتمثّل في زيارة المؤتمرات وانتزاع اعترافاتٍ من جامعات ومراكز بقوّته وأصالته داخل البحث العلمي، وإنّما يعود أساساً إلى القوّة الخفيّة الساكنة التي يُحدثها فكر المشروع في أجساد القوى الشعبية والمؤسّسات الرسميّة والأطراف السياسيّة للثورة على الوضع القائم والتطلّع صوب مجتمعٍ مُغايرٍ. هنا يُصبح الفكر الفلسفي قائماً على التجدّد لا من ذاته كما في علم المستقبليات أو مرحلة ما بعد الفلسفة، لكنّه ينبثق من داخل النسيج الجماهيري ومدى تغلغل أفكاره ومفاهيمه ورؤاه في نسيجه الاجتماعي.
يستند الرجل بشكلٍ وجوديّ تامّ إلى التراث العربي الإسلامي، فكراً وأدباً، وأيضاً من خلال ما يقترحه هذا التراث من مفاهيم وإشكالات، يُخضعها لمختبر المناهج المعاصرة. هنا يغدو التاريخ فكراً، حيث الفكر التاريخاني الأكثر غربلةً للمفاهيم والأفكار، فهو يُفسّر كل شيء في التراث من منظورٍ تاريخاني، من دون تحيّزٍ أو تخدنقٍ أو تقوقعٍ داخل شرنقة الدينيّ أو فداحة السياسيّ، وإنّما حرص على اللعب/ التفكير بين الأمرين. لذلك طالما اعتبر حسن حنفي في نظر المصريين بأنّه مُفكّر الخطاب المُزدوج، فهو في نظر الإسلاميّين مثقّف يساري، وعند اليساريّين بأنّه مُفكّر إسلاميّ تنبثق أفكاره ومواقفه من المرجعيّة الإخوانية. والحقيقة أنّ هذا التصنيف «اللامعرفي» الذي تشدّقت به أقلام عدّة تجاه حسن حنفي، لم تكُن مرجعيته علمية وفكريّة، بل فقط ذات بعد سياسيّ وتارة إيديولوجيّ نابع من السُلطة المصرية التي حجبت لسنوات مؤلّفات حنفي بمعيّة الإعلام الرسمي، حتى لا تصل إلى الناشئة داخل مصر. فهذه الشريحة كانت الهدف الأساس لدى المُفكّر، حتّى يتشرّب المجتمع المصري أفكاره ويعي السياقات التاريخيّة والمنطلقات الفكريّة التي بلور فيها وبها فكره التجديدي التحرّري من المعتقدات، مُراهناً على ضرورة خروج العرب من شرنقة النقل إلى رحابة العقل، بحيث تدخل الأمّة العربيّة مرحلة الإنتاج والإبداع والنقاش والتثاقف المبني على العقل ومكانة الفرد وحريّته في الاختلاف، بما هو مختبرٌ لتأسيس فكرٍ جديدٍ ومُختلف، قد لا يكون دوماً يَجُبُّ الفكر الذي سبقه وينفيه، وإنّما يُشكّك في منطلقاته وأدواته، فيُشكّلان معاً أرضية لفكرٍ آخر. فعلُ التراكم هذا، ميّز حسن حنفي وصاغ أفق مشروعه وتفرّده داخل الثقافة المصرية. كل شيء في فكر حنفي يبدأ بالعودة إلى القديم وإلى جذور الحضارة العربيّة الإسلامية وتراثها لفهم مآزق العطب الذي ألمّ بالمنظومة التراثية العربيّة الإسلاميّة.
تعامل حسن حنفي مع التراث قبل التجديد، فالأوّل بمثابة براديغمٍ فلسفي منه تتفرّع المفاهيم الأخرى المُرتبطة بالذاكرة والهويّة والماضي وغيرها. يقول: «التراث هو نقطة البداية كمسؤولية ثقافية وقومية، والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقاً لحاجات العصر، فالقديم يسبق الجديد. والأصالة أساس المعاصرة، والوسيلة تؤدي إلى الغاية. التراث هو الوسيلة، والتجديد هو الغاية وهي المساهمة في تطوير الواقع، وحلّ مشكلاته، والقضاء على أسباب معوقاته، وفتح مغاليقه التي تمنع أي محاولة لتطويره». قد يبدو للقارئ أنّ كلاماً من هذا القبيل لبديهيّ ومُكرّر في تاريخ الفكر العربي المعاصر، لكنّه سرعان ما يندهش من قدرة حنفي على تفكيك ثنائية «تراث/ تجديد» لأنّه لم يجعله حديثاً عابراً في ثنايا مُؤلّفاته، بقدر ما حصّنه بإطارٍ مفاهيمي ومنطلق معرفيّ، يجعل التراث قاطرة في خدمة الواقع. التراث في فكر حنفي مجرّد خزّانٍ تاريخيّ ومُختبرٍ معرفي يُولّد المفاهيم، يشتغل كحركةٍ دائرية تنطلق من قضايا عربيّة معاصرة، لكنّه سرعان ما يعود إلى التراث ليستنطقه ويُفسّره ويفهم قدراته على تفسير الواقع. لكنّ حنفي يذهب بعيداً في تفسير التراث. يُميّز داخله بين مستوياتٍ عدّة، الأول يرتبط في نظره بما سمّاه «بعث التراث» الذي يقوم على وجودٍ مادي، تعمل المؤسّسات الثقافيّة من خلاله على تصويره وترتيبه وإعادة نشره بحلّة جديدة، فيُصنّف في فهارس وتُعدّ له قواميس وإحصائيات. إلاّ أنّ العودة إلى التراث في نظره، لا ينبغي أنْ تكون مقدّسة وتتعامل معه باعتباره يمتلك وجوداً مُستقّلاً يُدافعه عن نفسه أو مُحتوياً على حقائق علمية لا يُشقّ له غبار، لأنّه تراث لا يُمكن فصله عن الواقع الأوّل أو المُعطى الفيزيقيّ الأساس الذي فيه ظهر، وعلى منواله بلور ملامحه ومشروعه. من ثمّ، فإنّ الانتقال إلى المستوى الثاني للتعامل مع التراث ضرورة ملحّة في فكر حسن حنفي.
كل شيء في فكره يبدأ بالعودة إلى القديم لفهم مآزق العطب الذي ألمّ بالمنظومة التراثية العربيّة الإسلاميّة

يستند هذا المستوى إلى تفكيك هذا التراث، فلسفة وأدباً، حيث يتم إخضاعه للمنهج الفينومينولوجيّ (الظاهراتي). وهنا يكمن سرّ حنفي في تشريح الخطاب الديني منذ أوّل بحثٍ بعد عودته من السوربون، فتأثير هوسرل ومنهجه، سيطبعان حياته العلمية. إنّه المفهوم القادر على تفكيك هذا التراث المُركّب. ولأنّه ليس مجرّد أرشيفيّ مادّي، فإنّ حسن حنفي جعله ظاهراتياً بمثابة «مخزون نفسي عند الجماهير» كونه جزءاً من مُكوّنات الحاضر العربيّ اليوم، مع أنّ ملامح هذا التراث، لا تبرز ظلاله إلاّ على مستوى جوانب الحضارة الفنيّة والمعمارية والفلسفية والأدبيّة المُتأصّلة في بنية الإسلام الحضاري ذي النزعة العقلية والجماليّة. إذْ لا يُمكن فهم الحضارة العربيّة الإسلاميّة، بعيداً عن العقل مع ابن رشد والجمال مع إنتاجات الفنّ الإسلامي المُتربّعة على عرش المتاحف العالمية. بهذا المعنى، يُصبح التراث مُوجّهاً لسلوكات الناس وأجسادهم داخل فضاء التاريخ. هو ما يُحرّك تفكيرهم وهواجسهم اليوميّة وعاداتهم وتقاليدهم وفقاً لبراديغم التاريخ والذاكرة.
يعمل التراث في مشروع حنفي كخلفية تاريخيّة، لكنّه لا يلبث في الدعوة إلى تجديده، لا العيش في غيبوبته ولا حتّى ببعثه ومحاكاته. يقول في هذا الصدد: «تجديد التراث هو وصف لسلوك الجماهير وتغييره لصالح قضية التغيّر الاجتماعي. تجديد التراث هو إطلاق لطاقات مختزنة عند الجماهير بدلاً من وجود التراث كمصدر لطاقة مختزنة». ذلك أنّه يبدو غريباً للفلاسفة النّظر إلى فكرٍ تاريخاني، يُحاول تفسير الماضي بالحاضر، على هذا الأساس، تعامل حسن حنفي بذكاء في دراسة براديغم التراث والتركيز على ظلاله في الحاضر، مقارنة بالدراسات الأخرى التي حملها القطار صوب ماضٍ سحيقٍ.
عُرف عن حسن حنفي، أنّه من المُفكّرين العرب، الذين ينتمون إيديولوجياً إلى التيار «التوفيقي» الذي زاوج بين اليسار والإسلام، ما جعله في الثمانينيات يُصدر مجلّة بعنوان «اليسار الإسلامي» شملت جميع مواقفه ورؤاه للتنظير إلى فكرة اليسار الإسلامي وإمكانية جعلها «حقيقة» مُتداولة في الخطاب الفكري العربي المعاصر. كانت المجلة بمثابة مُقدّمة لاستخلاص مزايا اليسار الإسلامي. وعلى الرغم من النقد اللاذع الذي وجّهه الإخوان إلى حسن حنفي بوصفه مُفكّراً «ضلّ» طريق الإسلام ومعتقداته، إلاّ أنّ المُتأمّل جيّداً داخل بعض الأقطار العربية سيلمح حجم تأثير فكرة اليسار الإسلامي على بعض الجماعات، سيما في مرحلة التسعينيات. إذ برزت مجلاّت إسلاميّة في المغرب، ذات نزعة نقدية قبل حجبها من لدن السلطات، لا لأنّها شكّكت وانتقدت الخطاب الإسلامي، بل لأنّها تجرأت على طرح سؤال الدين داخل دواليب الدولة العميقة. لكنّ ما ظلّ يعوز فكرة اليسار الإسلامي عند حسن حنفي، أنّها بقيت مجرّد استيهامية ونظرة ذاتية وتوفيقية، رغم أنّه حاول تأصيلها داخل كتابه «اليمين واليسار في الفكر الديني». اعتبر بعضهم أنّ فكرة «يسار إسلاميّ» ذات فتنةٍ آسرة وميسمٍ رومانسيّ أكثر من كونها أطروحة علمية تستند إلى تأصيل معرفيّ. ما يحول دون تحقيق هذه الفكرة ونجاحها داخل المنطقة العربيّة، زعمهم بأنّ اليساري ثائر في طبيعته على البُنى التقليدية الهشّة من تاريخٍ وأفكارٍ وتصوّراتٍ ومُعتقداتٍ بما فيها الدين الذي يُعدّ الرأسمال الرمزي للحياة الروحية في العالم العربي.