التقت «الأخبار» بالعديد من الباحثين والكُتّاب والأكاديميين العرب الذين يُكنّنون محبّة واعترافاً بالجميل الذي قدّمته مُؤلّفات حسن حنفي لمساراتهم البحثية. جاء هذا التحقيق بمثابة ضريبة محبّة وصداقة للمُفكّر الراحل. لكن وباعتمادهم على هذا النّمط من الكتابة، لم يتخلّوا عن نقدهم الفكري وقراءتهم الحميميّة لمشروعه النّهضوي البارز، من خلال إبراز مكانة الرجل وما شغله من مناصب أكاديميّة وسيرة حياتية مُندفعة تجاه المعرفة والتأليف والترجمة وتقديم يد العون للطلبة والباحثين الشباب. من هنا تأتي قيمة هذا التحقيق الذي يُوازي في مُنطلقاته بين الكتابة النقدية والأخرى العاشقة والمرتبطة أكثر بتشريح سيرة حنفي في ضوء مشروعه الفكري وإلقاء الضوء على العديد من المفاهيم الفكرية والسياقات التاريخيّة التي أسّست مساره داخل الفكر العربي المعاصر، مُؤرّخاً ومُفكّراً كبيراً، لا تقوى شروخ ومآزق الواقع العربي على نسيانه وطمس مشروع هويته النابعة من عمق الحضارة العربيّة الإسلامية بكل جماليّاتها وأعطابها

العقل جوهر الإيمان
صابر مولاي أحمد
(باحث في الخطاب الديني ـــ المغرب)


قُدّر للعالم العربي والإسلامي اليوم، أن يودّع إلى دار البقاء، أبرز قاماته العلمية المعروفة بشكل تتقارب فيه لحظات الوداع، خاصة تلك القامات التي تنتمي إلى مجال العلوم الإنسانية والفلسفة من أمثال محمد عابد الجابري، محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، جورج طرابيشي، محمد شحرور، هشام جعيط، محمد سبيلا وغيرهم كثر. أخيراً، ودّعنا أحد أعمدة الفكر والفلسفة، ممن ملأ الدنيا بأسئلة التجديد والتنوير، وبجهده الجهيد طول حياته، وقد أثمر مشروعاً علمياً إلى جانب عشرات المشاريع التي كانت ثمرة أبناء جيله، فمنهم من قضى نحبه وقد ذكرنا بعضهم ومنهم من هو حي يُرزق.
رحيل المفكر المصري حسن حنفي إلى جانب هؤلاء من أصحاب المشاريع الفكرية، جعل العالم الإسلامي أمام ميراث معرفي واسع وكبير، يتّصف من حيث الغنى بسؤال الثقافة والفكر والقيم والأخلاق، ويتميز بكون أصحابه فهموا العالم بأنه بيت للناس جميعاً. فالإعمار فيه يعود عليهم بالنفع جميعاً والفساد فيه يضرهم جميعاً، ولهذا لا فائدة في السبق من أجل امتلاك الأسلحة المدمّرة. فالقوة هي قوة الفكر، والفكر هو طريق النهضة والتحرر. وفهموا أمر الدين بأنه لله وحده، فالأديان مهما تعددت، وجهتها واحدة، فلا معنى للصراع باسم الدين ولا فائدة لإقحام الدين في موضوعات السياسة من أجل تدبير مصالح الناس اليومية؛ فالعقل جوهر الإيمان، والحكمة أي الفلسفة أخت ورفيقة الشريعة في دار الإسلام منذ زمن بعيد، فالمدنيّة والعلمانيّة والحداثة اليوم، ليست نقيضة لقيم الإسلام بأي وجه من الوجوه. هكذا كان الراحل حسن حنفي يفكّر إلى جانب هؤلاء في زمن الليل المظلم بفعل أوهام الأيدولوجيات التي تبيع الوهم باسم التقدّمية أو باسم الدين أو باسم القومية...
تميّز الراحل حسن حنفي بالهدوء والحكمة وبُعد النظر، ظلّ وفياً لصوت العقل والحكمة، لا تؤثر فيه شعارات الجماهير وعواطفها المتدفّقة وهي تسفق وترفع أصواتها عالياً في نوادي وساحات الخطابة الفارغة باسم الزعيم. الزعيم هنا باسم السياسة أو باسم الدين أو باسم القوم، فحسن حنفي لا يرغب في أن يكون زعيماً بقدر ما سعى ليكون منارة لصوت العقل والفكر في العالم، وقد تحقّق له ذلك؛ فالرجل كان من بين المساهمين في تثبيت الدرس الفلسفي في الجامعة المغربية في مدينة فاس مطلع الثمانينيات؛ وكان من أهم أعمدة الفلسفة في جامعة القاهرة، وقد ملأت كتبه كل المكتبات في العالم وخلقت جدالاً فكرياً كبيراً. كانت معرفتي الأولى بالدكتور حسن حنفي من خلال أحد كتبه «التراث والتجديد» وأنا طالب حينها في الجامعة؛ وقد التقيته وهو في عمر متقدم سنة 2014، حين كان مدعواً للتكريم في المؤتمر السنوي لمؤسسة «مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث» في مدينة مراكش المغربية. بالرغم من تقدمه في العمر، كان حسن حنفي طوال أيام المؤتمر شاب التفكير، وكانت له كلمة شدّت الحضور، حضر أهم جلسات المؤتمر وكان أستاذ الجميع بدون منازع يرون فيه صوت الحوار والعقل.
بوفاة حسن حنفي وأمثاله، نحن اليوم أمام تراث القرن العشرين؛ لأنّ أصحابه ولدوا ونشأوا وفكروا للإنسان ومن أجل الإنسان في القرن العشرين، بالرغم من رحيلهم في العقدين من القرن الحادي والعشرين. فهذا التراث القريب منا اليوم والملتصق بمحيطنا الاجتماعي والثقافي في الكثير من جوانبه في حاجة لنقده واستيعابه وتجاوز أبعاده التي ترتبط بما هو لحظي أو إيديولوجي أو محلّي... والبقاء على ما هو معرفي منه، وعلى ما هو ذو أبعاد إنسانية وكونية، بهدف ربط الجيل الحالي بزبدة أفكار وتجارب الأجيال السابقة؛ وبهدف استثمار ما قامت به الأجيال السابقة في العالم الإسلامي لمصلحة الحاضر والمستقبل. مستقبلنا نحن أبناء العالم الإسلامي ومستقبل الإنسانية جمعاء؛ وهذه مهمة منوطة بالباحثين والدارسين والمختصين في مختلف ميادين المعرفة، ومنوطة كذلك بالمؤسسات العلمية والثقافية في العالم الإسلامي.

مشروع بديل للفكر الغربي
خالد زيادة
(مؤرّخ وباحث ـــ لبنان)

يمكن اعتبار حسن حنفي كأبرز مفكّر إسلامي في مصر في العقود الأخيرة، فقد برز اسمه كباحث شاب في سبعينات القرن الماضي. وكان قد أمضى قبل ذلك عشر سنوات في فرنسا طالباً حاز الدكتوراه. وكان من أعماله الأولى عام ١٩٧١، ترجمة «الرسالة اللاهوتية السياسية» للفيلسوف باروخ سبينوزا الذي قدّم فيه نقداً للتراث التوراتي. صلة حنفي بالفكر الغربي لا تقتصر على هذه الترجمة، فقد خصّص للفيلسوف نيتشه كتاباً وخصّص كتاباً للفكر الغربي المعاصر.
لكن شهرة حسن حنفي لا تنهض على معرفته الوثيقة بالفكر الغربي وإنما على أعماله الغزيرة والضخمة، التي أبرزت اسمه كمفكر يُدعى إلى جامعة فيلادلفيا في الولايات المتحدة الأميركية وإلى جامعة طوكيو في اليابان. هذه الأعمال التي كان لها قرّاء ومريدون في العالم العربي وفي الإسلام الآسيوي. كما أنّها سبّبت لصاحبها انتقادات كثيرة في مصر خصوصاً وخارجها. ومن بين أعماله البارزة: «التراث والتجديد» (أربعة أجزاء) و«النقل والإبداع» (٩ أجزاء) و«من العقيدة إلى الثورة» و«مقدمة في علم الاستغراب» وغيرها كثير.
ومن خلال هذه الأعمال الغزيرة والضخمة، أنجز حسن حنفي مشروعه، وخلاصته العودة إلى التراث الإسلامي من أجل تجديده وتصويره وجعله قادراً على مجابهة قضايا العصر ومجاراة أو تحدي الحضارة الغربية. وأفضى ذلك إلى إطلاق ما يسمّى اليسار الإسلامي واعتُبر ممثلاً له.
ويُمكن أن ننسب حسن حنفي إلى جيل من المفكرين الإسلاميين (أي الذين جعلوا الإسلام موضوع تفكيرهم). وميزة هذا الجيل معرفة واسعة بالفكر الغربي، أمثال محمد أركون ومحمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن، وقد استخدموا معرفتهم بمناهج الفكر الغربي من أجل دراسة التراث: نصاً وفقهاً وشريعة وحضارة، من أجل إنجاز مشروع فكري بديل للفكر الغربي، يُضاهيه ويُقاطعه وخصوصاً عند حنفي وعبد الرحمن.
لكن مشروع حسن حنفي العلمي والمؤسّس على قواعد البحث الأكاديمي سُرعان ما اندرج في السجال السياسي. ولعل حنفي نفسه كان يريد لمشروعه أن يؤسّس لتيار فكري، ويتطلع إلى أن يخدم مشروعه اتجاهاً يتجاوز الاتجاهات التي تعدّدت وتنافرت وتصارعت على الفكر والسياسة في الإسلام.
اجتهد في التوفيق بين نقد بعض أدبيات المدونة التراثية، ونقد بعض أدبيات التراث الغربي، في سياق البحث عن بديل إسلامي نظري


ويندرج كتابه «مقدّمة في علم الاستغراب» في إطار مقارعة الغرب في استشراقه الذي خدم مشروع الغرب في الهيمنة من خلال المعرفة.
مع الإشارة إلى أنّ الاستشراق لا يقتصر على العرب والمسلمين، والمستشرقون ينتمون إلى فروع علميّة واسعة من التاريخ إلى الأدب إلى اللغة إلى الآثار، والمشترك بين المستشرقين هو الحقبة التي تمدّدت فيها أوروبا خارج حدودها وانتشار الرأسمالية وصولاً إلى زمن الاستعمار. فما هي الأسُس المادية والتاريخية لقيام علم الاستغراب ومن هي القوى التي ستدفع إلى بروز مثل هذا العلم.
كان حسن حنفي عالماً غزير العلم والإنتاج، وأعماله ترقى فوق السجالات التي أثارتها.
وفي جميع الأحوال، قد لا يكون حنفي آخر أصحاب المشاريع الفكرية المؤسسة على المناهج الغربية المطبقة على التراث الإسلامي. إلا أنّ إنتاجه الضخم بكل ما عبّر عنه، مجهود علمي ومعرفي، يبقى الدليل على استحالة إنتاج مشروع عصري مستمد من التراث.

في أرض «النقد المزدوج»
منتصر حمادة
باحث في الخطاب الديني (المغرب)

برحيل حسن حنفي، نطوي صفحة أحد أهم حاملي المشاريع العلمية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، من الذين اجتهدوا في الاشتغال على سؤال الإصلاح تأسيساً على أرض «النقد المزدوج» بتعبير الراحل عبد الكبير الخطيبي، وهذه حالة تكاد تكون فريدة من مصر والمنطقة العربية على الأقل، وإن كانت حالات مماثلة لها قائمة في العالم الإسلامي، أو المجال الثقافي الإسلامي، أي المجال الديني والثقافي والهوياتي الذي يُميز محور طنجة ــ جاكرتا.
نقول هذا أخذاً في الاعتبار أنّ الراحل اجتهد في التوفيق بين نقد بعض أدبيات المدونة التراثية، ونقد بعض أدبيات التراث الغربي، في سياق البحث عن بديل إسلامي نظري، يتجاوز الثنائيات الإصلاحية السائدة في مصر والمنطقة، والمؤسَّسة إجمالاً على اتجاه ينتقد المدونة التراثية العربية الإسلامية، منتصراً للطرح الغربي (الأوروبي على الخصوص) في سياق البحث عن معالم إصلاحية محلية وإقليمية، ومن بين رموز هذا الاتجاه، نجد محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وعبد المجيد الشرفي.
وفي مقابل ذلك، هناك اتجاه يكاد يكون مضاداً، يراهن ولا زال على نقد المدونة الغربية، مع دفاع كلي عن الأدبيات التراثية، ومن ذلك الدعوة إلى ما يُسمى «أسلمة الحداثة». اتجاه لا يهم ظاهرة الحركات الإسلامية وحسب، ما دام الأمر يتعلق بأقلية مجتمعية، وإنما يهم العديد من المفكرين في المنطقة (مالك بني نبي، محمد حسين فضل الله، طه عبد الرحمن..)، وما يصب عملياً في مصلحة الاتجاه الثاني، هو كثرة المراكز البحثية التابعة له، التي تشتغل على ما يُسمى «أسلمة المعرفة»، في نسختها الإيديولوجية على الخصوص، كما هي الحال مع العديد من المراكز البحثية الخليجية والمغاربية.
عانى الراحل من غياب أو تواضع ثقافة الاعتراف بمنجزه العلمي الكبير، كماً ونوعاً، وليس مصادفة، أن يغيب الاعتراف عن الأقلام التابعة للاتجاهين سالفي الذكر، فهذا تحصيل حاصل، لأنه أخذ مسافة من الخطاب الإصلاحي الأحادي، الذي يُميز الاتجاه الأول والثاني على حد سواء. وإذا كان مصيره التهميش أو الحصار من طرف رموز الاتجاه التراثي، فمن باب أولى أن يكون المصير نفسه مع الأتباع، وهذا ما عايناه عملياً على هامش التفاعل مع رحيله، من دون الحديث عن عودة خطاب توزيع «صكوك الغفران»، كما كان متوقعاً، مع بعض الأقلام المحسوبة على الظاهرة الإسلامية الحركية، بمقتضى تزييف الوعي الذي تعرضت له، والسائد في المنطقة والعالم الإسلامي مع العديد من الجماعات والتيارات والأسماء.
الغريب هنا، أن الراحل، يُعتبر أحد أهم المنظرين لتيار اصطلح عليه بـ «اليسار الإسلامي»، في شقه المعرفي، وليس «اليسار الإسلامي» في شقه الإيديولوجي كما هو قائم منذ عقدين تقريباً في المنطقة وحتى في أوروبا (مع الثنائي فرانسوا بورغا وإدوي بلنيل مثلاً في فرنسا، ضمن أسماء أخرى)، وبالرغم من ذلك، كان مصير أعماله التقزيم والحصار من الجميع، إلا من بعض المؤسسات البحثية، الرسمية والخاصة، والتي كانت توجه له الدعوة للمشاركة في بعض أعمالها بين الفينة والأخرى، وهي متواضعة في الساحة مقارنة مع الحضور الكبير للمؤسسات البحثية التابعة للمشاريع الإيديولوجية، الدينية والمادية. أحد المؤشرات الدالة التي تجمع بين غياب أو تواضع ثقافة الاعتراف في المنطقة، وتواضع الهم البحثي الذي يمكن أن يكون نواة إطلاق «اقتصاد المعرفة» وبالتالي الشروع في تأسيس «مجتمع المعرفة»، أن مشروع «علم الاستغراب» الذي اشتغل عليه حسن حنفي في كتابه الشهير «مقدمة في علم الاستغراب»، كان مصيره التجاهل، سواء من طرف السواد الأعظم من المفكرين والباحثين، لاعتبارات عدة، إما إيديولوجية أو شخصية؛ أو من المؤسسات البحثية والمؤسسات الفكرية والثقافية، الرسمية والخاصة، وهذا مؤشر يُلخص الشيء الكثير حول واقع الأفق العلمي والبحثي والمعرفي في مصر والمنطقة.

مفتون سبينوزا
حسونة المصباحي
(كاتب ـــ تونس)

تعرّفت على حسن حنفي في تونس مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وبه التقيت في الرباط في خريف عام 1982 على هامش المؤتمر العربي الذي انعقد هناك بعد غزو إسرائيل للبنان في صيف العام المذكور. وأذكر أني أجريت معه حواراً نشر في مجلة «الدستور» التي كنت أعمل مراسلاً لها في ذلك الوقت. وكان دائماً مفتوناً بفيلسوف واحد هو سبينوزا وترجم بعض كتبه إلى العربية. وقد ظل محافظاً على وفائه لسبينوزا حتى اللحظة الأخيرة من حياته. وتحت تأثيره، حاول أن يصيغ منهجاً فلسفياً يُنقذ الإسلام من الأصولية المدمرة، ومن الجهادية العنيفة. فعل ذلك بشيء من الجرأة في فترة أصبحت فيها الحركات الأصولية المتطرفة تتحكم بالحياة الدينية والسياسية لا في مصر وحدها، بل في جل البلدان العربية - الإسلامية. وفكرته الأساسية تقوم على أن الدين لا بد أن يكون نافعاً ومفيداً للإنسان على الأرض... أما السماء فللّه وحده. غير أنه لم يفلح في فرض فكرته هذه لأن الحركات الأصولية تمكنت من إقناع الأغلبية الساحقة من المسلمين بأنه يتوجّب على المؤمن الحقيقي أن يسخّر دنياه لآخرته، وأن الموت في الجهاد هو ما يبتغيه الله من المسلم. وهذا ما كان يؤكده بن لادن عندما كان يقول مخاطباً الغربيين المسيحيين واليهود: «نحن نحب الموت كما أنتم تحبون الحياة». وينتمي حسن حنفي إلى  تيار فكري حاول أن «يُعقلن» الحياة الفكرية والدينية في العالم العربي -الإسلامي. ومن بين رموز هذا التيار  يمكن أن نذكر  الجزائري -الفرنسي محمد أركون، والمغربيين عبد الله العروي، ومحمد عباد الجابري، والتونسي هشام جعيط وآخرين. وجميع هؤلاء سعوا من خلال مختلف التيارات الفلسفية الغربية إلى صياغة مناهج فكرية بهدف إحداث «صحوة» عربية جديدة تُعيد الاعتبار للعقل، وتحرّض على الاجتهاد في الدين، وتنسف الفتاوي والمواعظ الصفراء التي تُمطر بها الحركات الأصولية الناس يومياً من أعلى منابر المساجد، وأيضاً في الجامعات والمؤسسات وحتى في الأرياف التي تكاد تكون مقطوعة عن العالم... غير أن هؤلاء المفكرين «التنويريين» فشلوا في التأثير في الجماهير العريضة، وظلت أفكارهم منحصرة في الحلقات الضيقة داخل الجامعات تحديداً... وكان حسن حنفي من بين هؤلاء... ولعلّه رحل عن الدنيا وفي قلبه حسرة لأن مشروعه الفكري لم يفلح في اختراق القلعة الأصولية الحصينة والسميكة.

امتداد عصري لتراث الفقهاء
خديجة صبار
(أكاديمية وكاتبة ـــ المغرب)

ودّعت الساحة الأكاديمية العربية ومشهدها الثقافي أحد أهم ركائزه العلمية: المفكر والفيلسوف حسن حنفي، من كبار المفكرين والباحثين المصريين والعرب في التراث العربي الإسلامي إلى جانب اهتمامه بالقضية الاجتماعية والعدالة. وهو من روّاد منجزي المشاريع الفكرية الجليلة عبر مشروعه الضخم المتعدد القضايا (مصر) والأساتذة عبد الله العروي والجابري (المغرب) محمد أركون (الجزائر) حسين مروة (لبنان). كان الراحل حريصاً في كل ما ألّف على البعد الأكاديمي والمنهجي، ملمّاً بتاريخ الفكر الإسلامي والغربي، دارساً بشكل دقيق الفكر والفلسفة الألمانية من أصولها. ولم يترك باباً في شؤون الفكر والبحث العلمي إلا طرقه، ولا قارة إلا اقتحمها قصد الاستكشاف، فهو والبحث العلمي صنوان. أثّر في المسارات الفكرية لأجيال، وفتح نوافذ النظر والعقل. واحتل موضوع الفقهاء مكانة هامة في مقالاته، لاسيما وهو ينظر إلى نفسه في كثير من الأحيان على أنه امتداد عصري لتراث الفقهاء.

حنفي في فاس المغربية خلال حقبة الثمانينيات

المشروع الفكري لحنفي كبير ومتعدد الأوجه، غير أن الناظم لمختلف قضاياه «ظاهرة الإحباطات المستمرة». يستبطن هذا الخيط سؤالاً يرافقنا حتى الساعة: لماذا انتهت الإشكالات المركزية لوضعنا الفكري والثقافي، في جميع محاولاتنا النهضوية والحداثية، بالفشل أقرب مما نتصور، حتى إننا نرزع ويأبى الحصاد أن يأتي؟ عشنا محاولة إبداعية أصيلة برز فيها العرب ككيان واحد على مستوى الوعي والعمل، نَبَعت من واقعنا العربي الخاص على المستوى الاجتماعي في ما يتعلق بالإصلاح الزراعي، والتصنيع، وتكوين القطاع العام وتمكين العمال من حقوقهم. لكنّ هذه الثورة القصيرة تحولت إلى ثورة مضادة من الداخل، وتحول المشروع القومي العربي من مناهضة الاستعمار الغربي والاستيطان الصهيوني إلى الاستسلام، من الدفاع عن الحريات إلى القهر والتسلط، من وحدة الأمة إلى تحزب وطائفية وحروب أهلية، وتفتيت الأقطار، من تجنيد الجماهير وإدخالها في أتون المعركة إلى نوع من إبعادها ليبقى المشروع في أيدي الطبقة الحاكمة. جرّبنا التيار الليبرالي والإسلامي المحافظ وتحالفات الأحزاب التقدمية والقومية، فلم نجنِ سوى المزيد من احتلال الأرض والقهر والتفاوت الطبقي، ومحاولة تفكيك المنطقة كأن مشروعنا القومي يحوي في داخله باستمرار مشروعاً مضاداً. والسبب هو فقدان الوعي التاريخي، علماً أنّ لا وعي سياسياً بلا وعي تاريخي، والعجز عن التحول في نظرية المعرفة، تراث السلطة المقنع بالأدوات الديمقراطية لا يزال هو السائد.
ثلاث جبهات استغرقت فكره واعتبرها قضية القضايا في الفكر العربي الحديث والمعاصر: «الموقف من التراث القديم» بمعنى النقد لمنع معوقات التقدم، و«الموقف من التراث الغربي»، تراث «الأنا» وتراث «الآخر»، وهما جبهتان حضاريتان (الموروث والوافد)، جبهتان سلفيتان تضعان النقل أساس العقل، والجبهة الثالثة تضع الأنا في واقعها المباشر، «موقفنا من الواقع» (الماضي والحاضر والمستقبل) وتشير جميعها إلى جدل الأنا والآخر في واقع تاريخي محدد (النقل/ الإبداع) والزمان (الماضي/ المستقبل) والمكان (والحاضر). والجبهات الثلاث تتداخل، لكن غالباً ما يغيب التوازن في وعينا القومي بين أبعادها. وكلما ازداد الشعور بالقطيعة مع القديم، ازداد التغريب فينشأ وعي حضاري معاكس يتمسك بالقديم كله، ويرفض المعاصرة فتنقسم الأمة إلى فريقين، والواقع هو الخاسر.
يقف على التحديات التي لا تقدُّم لواقعنا العربي من دون تجاوز منطقها الكامن وراء بلاغة الحداثة: تحرير الأرض ومقاومة الاستعمار الجديد بناء على نظرية في التحرير (الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين واحتلال سبتة ومليلية المغربيتين)، الهوية مقابل التغريب والتبعية والتقليد، باعتبارها مقوم النهوض المستقل. امتد التغريب إلى حياتنا الثقافية واللغوية، واللغة سلطة، فالاستعمار حينما يحتل بلداً ما، فإنه يلغي لغة الشعب الوطنية، ويفرض تعلم لغة المستعمر ليفرض سلطته. وإحدى مهمات التحرير هي استعادة اللغة الوطنية بما هي التعبير الأصيل عن الهوية من دون الوقوع في مخاطر الانغلاق على الذات ورفض كل مساهمة للغير/ الحريات العامة ضد صنوف القهر والتسلط الداخلي، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الفجوة العميقة بين الأغنياء والفقراء/ الوحدة في مواجهة التجزئة والتشتت والتشرذم. وتجزئتنا إحدى أهم مآسينا وعجزنا عن مقاومة أشكال الاستعمار الجديد. الاستقلال الوطني سياسياً واقتصادياً وثقافياً وحضارياً، مع إعادة التوازن للثقافة الإنسانية. تقوية الجماهير وتجنيد قواها وطاقاتها مقابل اللامبالاة والفتور وعدم الاكتراث، التقدم في مواجهة التخلف والديون الخارجية والاستيراد عوض الإنتاج، فقدان قيمة الفرد والوعي بأهمية الواجب مقابل الحقوق: فالتقدم والحداثة في الغرب يعنيان الركود والبؤس والذل في عالمنا، فإستراتيجية الغرب تهدف إلى القضاء على الآخر: استعمار ونهب وتفكيك البنيات، وقتل قيامها الروحي الذي يمكّن من استئناف المقاومة لأنه ضامن البقاء المستقل للذات. وسيبقى الفيلسوف المناضل الأستاذ حنفي، صاحب مشروع «التراث والتجديد» و«من العقيدة إلى الثورة» و«مقدمة في علم الاستغراب» و«مترجم رسالة في اللاهوت لسبينوزا» و«تربية الجنس البشري لليسينج»، قيمة كبيرة وقدوة للباحثين والمهتمين بفكره العقلاني المنفتح على التيارات الفكرية والمفكرين، وبمساحات لقاء وتفاعل مع المفكر المغربي محمد عابد الجابري دونت مادتها العلمية في كتاب «حوار المشرق والمغرب» دائم الحضور، جامعاً لكل التقاطعات والالتقاءات وأوجه التناظر والتشابه حتى في غيابه.

إعادة بناء الإنسان
نسرين بوزازي
(باحثة ـــ تونس)

يندرج مشروع حسن حنفي ضمن محاولات التحديث التي دشّنها الفكر العربي عصر النهضة بغية تجاوز الوضعيّة الحضاريّة الحرجة وتعديل الكفّة بيننا وبين الآخر الغربي. سعى هذا المفكّر الموسوعي إلى محاصرة أسباب المشكلة والبحث لها عن حلول في ثنايا التراث الإسلامي بمختلف مجالاته ومكوّناته الفكريّة. تطرّق إلى عديد المسائل والقضايا، لعلّ أهمّها مسألة الفعل البشري حيث أبدى اهتماماً بالغاً بها، وخصّص لها حيّزاً مهمّاً في مشروعه، مدفوعاً في ذلك برغبته الجامحة في تحويل المنطقة العربيّة إلى الانخراط الإيجابي في المنظومة العالميّة الحديثة وذلك بنقلها من طور الاكتفاء باستهلاك منتجات الدول الكبرى إلى طور الإنتاج والتصنيع، مما يمكّنها من امتلاك سلطة قرارها والتحرّر من وطأة التبعيّة للآخر الغربي.
فالرهان الحقيقي عند حنفي هو إحداث ثورة صناعيّة وأخرى زراعيّة، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلّا بعد «إعادة بناء الإنسان»، منتبهاً في الأثناء إلى وجود جملة من القيود الكابحة لقدرات الإنسان العربي والحائلة دون إمكانيّة إتيانه الفعل الخلّاق، وقد كانت عائقاً أمام تحقيق طموح «الثورة». وهذه العوائق حسب رأيه تتمثّل في التراث الّذي اعتبره الموجّه الأصلي «لسلوك الجماهير»، فضلاً عن بعض الأفكار والتصوّرات العقديّة المنبثقة عنه والمكرّسة لحالة الخضوع والتواكل. نعني بذلك تحديداً ثقافة الجبر والقضاء والقدر التي دأب القدامى على استغلالها لتفسير علّة أفعال الإنسان ومتعلّقات حياته، فضلاً عن توظيفها في المجال السياسي وتبرير الهزائم والفشل. وللإحاطة بالمسألة في مختلف أبعادها، عاد حنفي للحفر في قضيّة الفعل البشري والمقاربات المتعلّقة بها كما يمثّلها التراث الإسلامي، فنبّه إلى خطورة عقيدة الجبر ولفت الأنظار إلى خطورة الفكر الأشعري القائم أساساً على ادّعاء التوسّط بين الجبر والاختيار في حين أنّه فكر أقرب إلى المقولة الأولى منه إلى الثانية.
هكذا يكون حنفي قد وضع إصبعه على موطن داء الثقافة العربيّة وكشف النقاب عن أهمّ العوائق الحائلة دون نجاح مشروع النهضة العربيّة. لكن ذلك لا يمنع من مؤاخذته على بعض الجزئيّات الفارقة في طرحه يتعلّق بعضها بتصوّره للتوفيق بين قطبي مشروعه الفكري «التراث والتجديد». هو يقوم بعمليّة إسقاط للتراث على الواقع الحالي، فيرى إمكانيّة تفسير الأخير وإيجاد حلول له انطلاقاً من الأوّل، أي التراث، فضلاً عن سوء توظيف آليّات القراءة. إذ نجده يتنقّل بكلّ أريحيّة بين المنهج والآخر، وهو ما أوقعه مثلاً في خطأ الحديث عن مروّجي ثقافة القضاء والقدر في القديم باسم «علماء الكلام» من دون إشارته إلى وجود فوارق جوهريّة في تصوّرهم لمنزلة الفعل البشري من ثنائيّة الجبر والاختيار وأنّ فيهم الكثير من المدافعين عن الحريّة الإنسانيّة. بالإضافة إلى ذلك، كان حنفي من الداعين إلى التجديد اللغوي ومستنده في ذلك أنّ العلوم الإسلاميّة «ما زالت تعبّر عن نفسها بالألفاظ والمصطلحات التقليديّة»، في حين أنّنا لا نجده يحاول دراسة مثل هذه الأجهزة المتعلّقة بمسألة الحريّة الإنسانيّة من الداخل أو النظر في الظروف المساهمة في تشكيلها، وهو ما يمكن أن يدفع بدراسة التراث نحو أفق أرحب ويمكّننا من تحقيق نتائج أكثر نجاعة وموضوعيّة.
أخيراً، من شأن الدراسة المعمّقة والموضوعيّة لمسألة الفعل البشري في الفكر الإسلامي القديم تمكيننا من التعرّف إلى حقيقتها، فلا نتعامل معها على أساس قداسيّ، كما من التصالح مع ذواتنا، وبالتالي التخلّص من الأسباب الحقيقيّة للأزمة العربيّة. إذ لا مناص من إنجاح مشروع النهضة العربيّة وتحقيق حلم اللحاق بركب الحداثة من دون تحرير الإنسان العربي وتمكينه من تفجير طاقاته الإبداعيّة. وهو ما يشترط ضرورة تفعيل قيم التعايش السلمي في الدولة الحديثة عبر إرساء الأنظمة الديمقراطيّة وتفعيل منظومة الحقوق والحريّات.