أُحييت في اليومَين الماضيَين محاكم تفتيش لبنانية على غرار تلك التي نشطت في القرون الوسطى لفرض نقاء العقيدة الكاثوليكية في الفضاء الأوروبي. المتّهم: وزير الإعلام جورج قرداحي.
التهمة: إطلاق مواقف تنسجم مع قناعاته السياسية.
المحكمة الناظرة في الدعوى: بعض الإعلام اللبناني.
الحكم: الاستقالة طوعاً أو الإقالة قسراً لتحقيق نقاء العقيدة السعودية على مساحة الجغرافيا اللبنانية.
بعض الإعلام الذي تصحّ فيه تسمية «الإعلام القمّام» (أسوةً بالحيوان القمّام الذي يقتات الجيف)، وجد ضالّته هذه المرّة في مقابلة أجرتها «الجزيرة» مع وزير الإعلام في 5 آب (أغسطس) الفائت، أي قبل تشكيل الحكومة بشهر وخمسة أيام.
فما الجديد الذي استحضره قرداحي تحت سقف المحطة الخليجية واستدعى هجمة خنافس وذباب وبوم وراكون الإعلام؟
لا جديد تحت الشمس! جديد الرجل لا يختلف عن قديمه. سوريا أحد ثوابته، وقناعته الراسخة هي أنّ حرب اليمن عبثية ويجب أن تتوقّف. بالمناسبة، أليست هذه قناعة الدول الخليجية التي سحبت قواتها تدريجاً من التحالف الذي سُمّي عربياً وتركت السعودية وحدها في هذه الحرب؟ وأليست الرياض نفسها أحد أبرز الساعين لنفخ حياة في العلاقات السعودية ـ السورية؟ إذن فلتفسّر لنا مملكة العبث كيف خدش الوزير العروبي بياض عينها.
لم يستخدم قرداحي أظافره في المقابلة، ولو فعل لكان سَخِر من الملايين الشهرية التي تنفقها السعودية لإسقاط خيمة في اليمن، ولكان تطرّق إلى الإسهامات المالية السخيّة للدولة السعودية في الحرب على سوريا، وحمّلها مسؤولية نحر أعناق السوريين. ولو استخدم أظافره لاقترب من طريق الحرير الذي قُطع بفعل أعمال «التحرير»، ولتوغّل في عمق هواجس واشنطن الأمنيّة التي دفعتها للتجذّر في التنف وسرقة آبار النفط السورية. ولو فعل لكان أتى على ذكر خطّة الناتو لخطّ الغاز القطري ومحاولة خنق الدب الروسي و..و.. وصولاً إلى حرب الرياض الاقتصادية على اللبنانيين.
لم يستخدم قرداحي أظافره، بل اكتفى بإطلاق مواقف تعبّر عن قناعاته السياسية واقتناعاته الشخصية. موقفه وهو خارج الحكومة لا يُلزم الحكومة. حتى موقفه وهو داخل الحكومة لا يُلزم الحكومة. ثمّة تقليد عمره من عمر عهد ميشال سليمان غير المأسوف عليه، يقول إنّ السياسة الخارجية للبنان داخل مجلس الوزراء شيء، والسياسة الخارجية للأفرقاء المشاركين في الحكومة خارج مجلس الوزراء شيء آخر. فهل تتوقّع الرياض مثلاً من قوى الممانعة أن تروّج لسرديتها المائعة في اليمن وسوريا بوصفها عملاً بطولياً؟ ثمّ كيف لها أن تعتقد بأنّ اللبنانيين جميعاً يسيرون بخطى واثقة نحو الانسجام مع «قيمها التنويرية» وصولاً إلى نقاء عقيدتها السياسية؟
جورج قرداحي وزير بطعم وطني ولون عروبي، نأى بنفسه عن الاعتذار رغم حملة الردح المستمرّة منذ أيام في «الإعلام القمّام»، وموقفه هذا رفعه ورفّعه، ما أحوجنا في البلاد المليئة بالرقّيفة والزحّيفة إلى وزراء من قماشته!