خمسة نصوص لشعراء كبار (فرناندو بيسوا، آنا أخماتوها، أليخاندرا بيثارنيك، آلدا مريني وبسّام حجار)، تستحضرها لنا الفنانة جاهدة وهبه كملحّنة موسيقية بذوق وشياكة من أزمنة وجغرافيا مختلفة لتربطها ببعضها كنص واحد مفتوح موسيقياً وشعرياً على سؤال الحب من باب المعاناة الإنسانية الدرامية، مع الفنانَين والمؤلفَين الموسيقيين المرموقين ساري وعيّاد خليفة اللذَين دعتهما جاهدة إلى مائدتها لمشاركتها السفر مع ألحانها الخاصة وصوتها ليجتمع الثلاثة على إعادة إحياء تلك النصوص بنسيج غنائي موسيقي شعري مفتوح على سؤال الإبداع والذي قد يعرف ربما كيف يبدأ، ولكنه لا يعرف أو يتنبأ إلى أين سيصل!يدعونا هذا الثالوث الفني الراقي إلى «حنين» أول مقطوعة من ألبومهم المشترك القادم بعنوان «ملح وظلال» لنتذوّق شذرات شعريّة للشعراء الخمسة الذين ذكرتهم، بالإلقاء الساحر والغناء الدافئ والتوزيع المتنوّع والمبتكَر وبعلاقة موسيقيّة شغفيّة تنطلق من مبدأ التفريد بالتقاسيم على ألحان بعينها مستندة على الصوت أو الإلقاء أولاً، لينطلق منها التشيلو والبيانو في رحلة الإبحار الفني، مفتوحاً على اتساع دراما التعبير وبطريقة مبتكَرة جداً وغير مألوفة إلا فيما ندر.
في شهر رمضان الماضي أدهشتنا الفنانة جاهدة بعملها الروحاني العرفاني «ما طلبتُ من الله في ليلة القدر»، وقد تشرّفت أنا وقتها بتحليل العمل في مقال محترف دعوتُ فيه إلى ترشيحه لجائزة عربيّة لشدّة تركيب وسلاسة نسيجه البوليفوني الشرقي المفعم بجماليات النقلات والتنويعات والذي أبقى المستمع مشدوداً متشوقاً، وأيضاً لفتنة احترافه التنقّل بين مقامات وإيقاعات الموسيقى العربية من خلال استعمال تقنيات الموسيقى الغربية الكلاسيكية... وفي هذا ما يدعو حقاً للدهشة والاحترام لأنه يقدم نموذجاً فنياً راقياً كاقتراح لبديل موسيقي عربيّ متطور يستحق أن ينتشر بين الناس ويساهم ربما إلى حد بعيد في إعادة لملمة عناصر الحصانة الانفعالية لأذن المتلقّي العربي المقهور بالإسفاف والانحدار الفني. ومع إصراري على رأيي ورغم أنه ليس هناك آذان صاغية للأسف، أُفاجأ باجتماع جاهدة بالأخوين خليفة بعمل فني آخر بديع من ألحانها وتوزيعهما الحيّ ومن عيار «ما طلبتُ» وإن كان يختلف في مضمونه الإنساني من سؤال الروحانية إلى سؤال الحب. يبقى أن العملين يحتفيان بنفس الهاجس الابداعي ويرتبطان بصلابة الهموم وسمو التطلعات والطموحات.
هل يعني هذا أني أرشح هذا العمل أيضاً لجائزة مماثلة؟ نعم (وإن كنت أفعل هذا فذلك للتاريخ) لأني أعرف أن أحداً من المسؤولين في مجالات الثقافة والفنون العربية لن يهتم ربما الآن. أرشّحه أيضاً لأنه عمل نوعي فيه الكثير من ارتقاء مستوى العمل الجماعي والذي يُعْلي من منسوب الابتكار حدّ الابداع.
لن أتطرّق في عجالة مقالتي هذه إلى العمق في تحليل العمل بل سأتركه إلى مقالة أكثر احترافية لاحقاً، ولكن أريد أن ألفت نظر وسمع المتلقي إلى غنى العمل بالتفاصيل الموسيقيّة رغم الاقتصاد في عدد الآلات إذ اقتصرت على الصوت (إلقاء وغناء) والبيانو ثانياً (الذي لصعوبة نسيجه المفتوح على سلّمين موسيقيين يعقّد دوره على مفتاحي الصول وال فا ولكن بجمالية سامقة، بلعبه أسلوب التفكير الكونشرتاتي المفتوح بوليفونياً على بناء التأليف الموسيقي وصولاً إلى عمق التفكّر بالتركيب الهارموني والكونتربواني الغربي ولكن بروح شرقية الهوى) وثالثاً، وهو ما أدعو إلى الانتباه له، هو دور آلة التشيلو الثري والذي يخلب الألباب، حيث بدا لي ساري خليفة في عزفه كأنه متواطئ عاطفياً وروحياً مع الإلقاء، والمدى الشعري المُغَنّى بصوت جاهدة كما مع الروح الأدبية التي سافرت بنا إلى ُمَوسقة بالطنين تمتد من الماضي، وتحديداً منذ ظهور الترانيم الكنسية السريانية والمارونية والبيزنطية والتي جسّدت موسيقياً عذابات السيد المسيح وصلبه، إلى زمن البكاء على الأطلال في تراث الشعر العربي كما عند امرئٍ القيس مثلاً أو نوستالجيات المجد لدى المتنبي، وصولاً إلى رهافة السيّاب الدرامية مروراً ببكائيات عاشوراء التي انتشرت في العراق (ناظم الغزالي أو مجالس الإمام الحسين). عرف التشيلو كيف يُعبّر عنها بحنينه الأول عبر تاريخ الآلة وهو يسترجعه بحرفية لا تضاهى، بما يشبه حنين التشيلو إلى صوت الربابة وما صارته لاحقاً في دول كأذربيجان وإيران وتركيا. بدا ساري بتقنيات كتقنية السولبونتيتشيلو Sul Ponticello مثلاً، بدا كأنه ساحر يستحضر بشفافية عزفه روح الشرق بمآسيه وتطلعاته لروحانيات أنقى.
عادةً أنا لا أحب المبالغات بل وتزعجني ولكن أريد أن أغامر بكثير من التحدي والاحترام كمستمع وكناقد وأقول بأني لا أعرف عازف تشيلو كساري خليفة يمكن أن يعبّر بعزفه عن سر ما يربط النصوص الشعرية بالتعبير الموسيقي الدرامي متآخياً مع روح المقام الشرق عربي ومع النسيج الذي يربط كل هذا ببعضه، مع قوس التشيلو وأوتاره، ومع بذخ العزف وصمته... إنه يتقمّص روح آلته ليحاور روح المقام ويعرّيها من ثياب أكاديمية صارمة ولعلّه باستطاعتنا أن نطلق عليه وبالإنكليزيّة، مع قلة قليلة من مهرة العزف في عالمنا العربي، لقب National treasure.
على يدي ساري كما في حرير حنجرة جاهدة هناك دائماً حنين العودة إلى الجذور والذات والصوت الأول حين حلت عليه الدهشة الموسيقيّة للطنين. هو شيء من حنين التشيلو الى آلات جاءت لتتطور بعد الربابة وتحاكي الصحراء والاتساع والملأ بالسؤال اللامتناهي عن عظمة الشعر وتحديداً عن دهشة الفراهيدي الأولى وهو يبتكر لأول مرّة تفاعيل البحور الشعرية التي أدت إلى ثراء صنعة الشعر عند العرب!
«حنين» كعنوان هو عمل مشدود إلى الحنين والحب والروح الأولى التي لا تعرف إلا العطاء لدرجة الإبداع، ولا يمكن أن نمرّ عليه من دون تحليل. فقط ألبّي هنا دعوة الفنانين الثلاثة لي لمشاركتهم فرح الاحتفال بعملهم الجديد بعدما شرّفوني بالنسخة الأولى قبل يوم واحد من صدوره. فشكراً لهم ولنا عودة بالتفاصيل!