في فندق صغير في بلدة صغيرة في شمال شرق فرنسا، بتاريخ 8 حزيران (يونيو) عام 2018، شنق أنتوني بوردين نفسه! الشيف المشهور والكاتب وصاحب أشهر البرامج التلفزيونية، انتحر. بوردين بالظاهر وفي لغة الحياة، كان يملك كل شيء: سافر حول العالم أكثر من مرة، وصل إلى أكثر الأماكن غرابة، أكل وشرب في أفضل الأماكن والمطاعم، وفي أسوئها أيضاً، تزوّج مرّتين ولديه ابنة، برامجه التلفزيونية ناجحة جداً، ولديه الجمال والكاريزما والذكاء، وكل وسائل الراحة متوافرة له. لكن ما الذي حدث؟ Roadrunner: A Film about Anthony Bourdain (2021) لا يحاول الإجابة على هذا السؤال، بل يخبرنا عن حياته احتفاءً بإرثه، لا أكثر ولا أقل. لم يُحاول المخرج مورغان نيڤيل البحث عن أي شيء مهمّ أو الإتيان بأخبار أو أسرار، لم يدخل في العمق في حياة الشيف المشهور، لم يُخبرنا أي شيء جديد. مجرّد مشاهد ومقابلات في شريط لا يُمكن اعتباره فيلماً وثائقيّاً، بل ريبورتاج تلفزيوني من إنتاج «سي. أن. أن» (هناك فرق كبير بين الريبورتاج والفيلم الوثائقي) تكريماً لبوردين الذي صوّر آخر برنامج له معها. الفيلم عبارة عن مقاطع ڤيديو مسجّلة لبوردين طوال فترة حياته، خلف الكواليس من برامجه، مشاهد من أفلام كان يحبها، والعديد من الشهادات لأشخاص عرفوه وأحبّوه وتعاملوا معه، معظمهم من فريق عمله وأيضاً أصدقاء مثل جون لوري وجوش هوم والعديد من الطهاة، بالإضافة إلى زوجته الثانية أوتاڤيا بوسيا. «روودرانر: فيلم عن أنتوني بوردين» سخيّ وشامل تقريباً عن حياة بوردين، يقدّم لغة حياة بوردين أكثر من نغمة موته.
شغوف بالأدب والروك والسينما والمغامرة، سرعان ما أصبح بوردين من المشاهير في المشهد الإعلامي. شهرته بدأت عندما نشر كتاباً بعنوان «سر المطبخ» (2000) يُخبر فيه بطريقة حميمة أسرار عالم المطبخ. الشهرة دفعته إلى تقديم برنامج تلفزيوني جاب بفضله العالم لتذوق أشهى المأكولات النادرة في أكثر البلدان غرابةً. كان البرنامج يغيّر اسمه وأسلوبه كثيراً. ومع الوقت، ابتعد بوردين أكثر فأكثر عن الطعام، واتجه إلى المغامرات والأحداث التي كانت تجري خلال السفر مع تعليق بوردين عليها بطريقته الخاصة والاستثنائية. يسرد الفيلم التسلسل الزمني لحياة الطاهي، من عمله في مطعم صغير وزواجه الأول، برامجه، شهرته وزواجه الثاني، ابنته، إلى آخر سنوات حياته وموته. كل شيء بطريقة تقليدية ومتوقعة. سننتقل مع بوردان من مطبخه كشاب بريء فضولي إلى الانفجار الإعلامي وشهرته المتزايدة مع 250 يوماً من السفر في السنة. تعرّفنا إلى بوردين كشخصية لا تعرف الكلل، أطلّ من زوايا العالم للتعليق على كل شيء من نظرته الفضولية القاسية.
كل شيء في الفيلم يمشي كالساعة، لم يترك المخرج أي شيء على نار هادئة، كل شيء قُدّم بارداً كوجبة خفيفة. سافر الشريط مع بوردين إلى أكثر المناطق جمالاً، وعرّج على سفر بوردين إلى أكثر المناطق فقراً، مثل هايتي والكونغو وصولاً إلى المناطق التي تشهد صراعات سياسية وحروباً مثل لبنان خلال العدوان الإسرائيلي عام 2006، عندما كان بوردين يشاهد الطائرات الإسرائيلية من شرفة الفندق قبل إجلائه. ومن هنا تحديداً، بدأ الفيلم يُسرع أكثر ويمر على كل شيء مرور الكرام. الصراعات التي كان بوردين يخوضها عند سفره إلى الأماكن الأشدّ فقراً. شعوره بأنّ برنامجه يستغل هذا البؤس للترفيه التلفزيوني كان واضحاً من خلال نظراته ومراقبته، خاصة بعد رفضه التصوير في لبنان خلال العدوان، وقد عاد إلى بيروت لاحقاً بعد سنوات وصوّر من جديد.
كان يشاهد الطائرات الإسرائيلية من شرفة فندقه خلال عدوان تموز


إحدى أقوى لحظات الفيلم هو عند ذهاب بوردين للتصوير في الكونغو، وتداخل هذه الرحلة مع فيلم يحبّه بشدة هو «القيامة الآن» (1979) لفرانسيس فورد كوبولا، وشخصية مارلون براندو فيه، وكتاب «قلب الظلام» (1899) لجوزيف كونراد، الذي بُني الفيلم حوله. هذا التداخل الكبير الذي كان لديه تأثير عظيم على بوردين الواضح من نظراته، مرّ الفيلم عليه مرور الكرام من دون عمق. كان لهذه الرحلة والفيلم والكتاب أن تكون محور الفيلم وحياته كلّها، لو أراد المخرج إدخالنا إلى وحدة بوردين ومخاوفه وإدمانه وعلاقته الغامضة بعمله. واجه الفيلم مشاكل كبيرة في التعامل مع سنوات حياة بوردين الأخيرة، الذي أراد فيها أن يلتقط الفراغ الهائل الذي أحدثه موته. بمجرّد أن بدأ الفيلم في الذهاب نحو علاقة بوردين مع الممثّلة آسيا أرجينتو، بدأ التدهور. تحول الفيلم من الكلام عن بوردين ذاته إلى التكلم عن حياة أرجينتو وعلاقتها بهارڤي واينستين وحملة #MeToo. وهنا بدأت المقابلات بسبب الأسئلة الهشة تلوم بوردين على ابتعاده عمن أحبوه وإلقاء اللوم عليه. تحول الفيلم إلى نوع من الاستهلاك وتصوير ما حدث لبوردين على أنّه بسبب خيبة أمل بسبب علاقة حبه الأخيرة مع أرجينتو.
من الواضح أن الفيلم مصنوع للاستهلاك السريع، لم نتعرف جيداً إلى بوردين بالرغم من أنّ بوردين كان يدعونا إلى داخله وأفكاره من خلال نظراته وكلامه وكتاباته. لكن المخرج وفريق العمل لا يريدان أن يسمعا. من المحزن أن يختصر فيلم مماثل حياة الرجل الغامض. تصرّف المخرج على أنّه جزّار في مسلخ، سلخ كلمات بوردين من كتابه ووضعها في غير محلّها (استعمل المخرج تكنولوجيا صوتية جديدة، استطاع فيها أن يسمعنا صوت بوردين وهو يقول أشياء لم يقلها ولكنه كتبها فقط). لعل أصدق شيء كان في الفيلم هو كلمات بوردين لصديقه: «حياتي سيئة الآن، أنت ناجح وأنا ناجح وأسأل نفسي: هل أنت سعيد؟».