حاوَرَه: تشيبندو أونوزو
ترجمة: أحمد شافعي
«سجلّات من أرض أسعد شعوب الدنيا» الصادرة في أيلول (سبتمبر) في المملكة المتحدة هي رواية سوينكا الأولى منذ قرابة نصف القرن. رواية صاخبة عن حالة الأمّة تتبع شخصية زعيم ديني، وسياسي، وبارون إعلامي، وجماعة من أصدقاء الجامعة، إذ يرسمون طريقهم في نسخة من نيجيريا المعاصرة. والسخرية والتعليق على السياسة والمجتمع النيجيريّين علامة مميزة لسوينكا. تكلّمنا عبر زوم في أواخر (آب) أغسطس الماضي، كنت أنا في لندن وهو في بيته حيث تسمع زقزقات الطيور في الخلفيّة. ناقشنا روايته الأخيرة، وأفكاره عن الأخ الكبير أفريقيا، وعن الرحلة التي قطعها منذ الطفولة، وآماله لنيجيريا



«سجلّات من أرض أسعد شعوب الدنيا» هي روايتك الأولى منذ 48 عاماً. لماذا الآن؟ ما المميّز في هذه اللحظة؟
ــ ظلت ثيمات هذه الرواية مستمرة معي في أشكال عديدة، اسكتشات ومجادلات وشعر. وظلت الأفكار تتجمع وتتراكم. وأخيراً قلت: فلأجرِّب تدوين كل هذا نثراً لمرة واحدة.

في الكتاب طائفة ضخمة من الشخصيات من شتى مناحي الحياة: السير جودي رئيس وزراء هذه النسخة الروائية من نيجيريا، والمهندس بيتان بايني المقاتل الصليبي ضد الفساد، وبابا دافينا مؤسس «المسيحسلامية» أي الهجين من المسيحية والإسلام، وكثير غيرهم. كيف تعقبت مساراتهم جميعاً؟
ــ هذا سؤال جيّد جداً، وأنا سعيد أنك طرحته، فهذا في صالح الروائيّين الشبّان الذين يتعيَّن عليهم استعمال هذه الأداة الرائعة المعروفة بالكمبيوتر. قد يتصوّرون أن الكمبيوتر يُساعد. والكمبيوتر، صدّقوني، قد يكون عدواً. إنني أمنحك أسرار الصنعة، إذ تعلّمت بأشقّ السّبل في هذه الرواية. عليك بترقيم المسودّات بمنتهى الحرص. هذه هي الوسيلة الوحيدة للعمل.



أيّهما يأتيك أولاً: الحبكة أم الشخصية؟
ــ الشخصية في ما أظن. الأحداث تنشأ من الشخصية وليس العكس.

الزعامات الدينية تتعرض للسخرية في هذه الرواية، كما في مسرحيتك «محاكمة الأخ جيرو». برأيك، ما الدور الذي يضطلع به الدين في نيجيريا؟
ــ الدين عنصر فاتن في بيئتي منذ الطفولة. في البداية كنت مؤمناً. أُرغمت عليه في طفولتي، لكنّني بدأت مع نضجي ألقي نظرة أقرب على بعض هذه المزاعم والشخصيات. وكثير منها كان شديد الثراء. ومع ازدياد الصبغة المادية في المجتمع، والصبغة التهكّمية واللاأخلاقية، بات من الناس من يمارسون الدين بتزمّت لأغراض إجرامية. وأجد نفسي بوصفي كاتباً منجذباً إلى قدراتهم الإبداعية. فلديهم الكثير ليقدموه من وجهة نظر الدراما.

استمتعت بالنطاق الكبير من الإحالات المعاصرة. ولو أن المرء يألف المشهد السياسي النيجيري فبوسعه أن يتبيّن شخصيات ساخرة مخفية برقة. هل تحتّم عليك أن تجري بحثاً لكتابة هذه الرواية، أم أن المادة كلّها كانت في رأسك بالفعل؟
ــ بلغت الأحداث المحيطة بي ما يمكن تسميته نقطة التأزم. المجتمع حقاً أصبح غير داعم في ما يتعلق بما يمكن أن يستوعبه المرء على أساس يومي. أنا أتكلم بصراحة: كثير من الأحداث مأخوذ من الحياة الواقعية. بعض الشخصيات مأخوذ من الحياة الواقعية، لكنها أُكْسِبَت الصبغة الروائية. ذلك من بين الأسباب التي جعلتني راغباً في إطلاق الكتاب قبل الذكرى السنوية الستين لاستقلال نيجيريا. أردته أن يكون هديتي إلى الأمة، إلى الشعب المقيم هنا: لكل من المحكومين والحاكمين، المستغِلين والمستغَلين.

في الرواية أيضاً الكثير من الإحالات الثقافية، منها مثلاً برنامج «الأخ الكبير أفريقيا» [Big Brother Africa]. هل تشاهد الآن «الأخ الكبير نايجا» [المعروف سابقاً بـ «الأخ الكبير نيجيريا»]؟
ــ أجده مثيراً للغثيان. شاهدت «الأخ الكبير أفريقيا» على سبيل الواجب عند ظهوره [في 2003]. كان أصحابي يسارعون بالرجوع إلى البيت. يقول أحدهم «معذرة، لا بد أن أرجع. لا بد أن أشاهد هذه الحلقة». أعتقد أنني احتملت حلقتين ونصفاً. ولكن هذه النظرة المختلسة خالفت كل ما كنت أعتقده، فلم أشاهد النسخة الجديدة على الإطلاق. ولن أقربها.

يبدو عنوان الرواية «سجلات من أرض أسعد شعوب الدنيا» انتقاداً لنيجيريا: نحن سعداء برغم كل ما يجري من أخطاء. فيلا كوتي أيضاً ينتقد هذا في أغنيته «مغاناة وابتشام» Shuffering and Shmiling التي يوبّخ فيها الجمهور لاحتماله ظروفاً رهيبة. هل تصف نفسك بالسعيد؟
ــ خطر لي العنوان عندما قرأت في مكان ما قبل سنوات قليلة أن النيجيريّين يُعدّون بين العشرة الأوائل من أسعد شعوب العالم. فنظرت إلى ما أقرأ وفكرت: «ماذا؟ أهذه هي نفس النيجيريا التي نتكلم عنها؟» فالقصد من العنوان أن يكون تهكّمياً. هو يقيناً ليس بالوصف الصادق لما أصادفه يومياً أو ما تراه حينما تفتح الجريدة. هل أنا سعيد؟ في الوقت الراهن، أنا راضٍ لأنني في بيئتي. حينما أخطو خارج هذه البيئة، يتسارع نبضي. أنا لا أستعمل كلمة «سعيد»، ولا أستعمل كلمة «تعيس». أحاول الحفاظ على حالة توازن يكون بوسعي فيها أن أؤدي وظائفي كإنسان. وهذا كل ما في الأمر.

اخترت أن تعيش في نيجيريا وقد كان بوسعك أن تعيش في أي مكان في العالم. لماذا؟
ــ أنا شخص كسول. اعتدت هذه البيئة. في كل مرة كنت فيها منفياً، كنت أكتشف فعلاً أنني غير قادر على الشعور بأنني في مكاني، ليس بصورة تامة.

في «الشكر والعرفان» توجّه الشكر لزميل عنده كوخ في السنغال، وإلى جون أجيكوم كوفور ريس غانا السابق، لتوفيرهما لك «معتزلاً إبداعياً تكتب فيه هذه الرواية». هل تشعر أنك غير قادر على الكتابة في نيجيريا؟
ــ لا لا. بل أستطيع الكتابة في نيجيريا. كل ما في الأمر أن هذه الثيمة اقتضت انفصالاً عن نيجيريا. في أول فترة عمل لي في السنغال، دونّت جزءاً كبيراً من الرواية. ثم كان عليّ أن أرجع إلى كسب عيشي. صدق أو لا تصدق، لم يزل عليّ أن أفعل هذا، أحاضر وما إلى ذلك. ثم بدأت البحث عن فترة قصيرة أخرى. فعرض عليّ الرئيس كوفور، وهو صديق، ما أسمّيه بالبيت الباروني في غانا. فانتقلت من ذلك الكوخ المجاور للبحر لأجلس في حِجْر الرفاهية. كان هناك من يعاونونني في كل صغيرة وكبيرة من احتياجاتي فكنت شديد الامتنان لذلك.

هل حصولك على «نوبل» يُشعرك بضغط أكبر حينما تجلس للكتابة؟
ــ على الإطلاق. ودائماً أنصح الجيل الأصغر: لا تستسلموا للضغوط. وإذا استشعرتم ضغطاً من النوع العقيم ـ وهو «عليّ أن أكتب، ينبغي أن أكتب» ـ فلا تذعنوا. كل ما على المرء أن يفعله حينئذ هو أن يخرج ويفعل شيئاً آخر. اغمسوا أنفسكم في البيئة. اذهبوا إلى الحانة. اسكروا. يعني، حاولوا ألا تصلوا إلى السكر لكن افعلوا شيئاً آخر، شيئاً إيجابياً. اقرأوا كتاباً، اخرجوا للتَّمشي، تفاعلوا مع آخرين، تأملوا الطبيعة، اخرجوا إلى الشارع وامشوا بين الناس. وسيدهشكم مدى سرعة انسياب المادة في أذهانكم.

قضيت سنين كثيرة في النشاط السياسي بالكلمة والفعل. كيف رأيت حركة مظاهرات «إنهاء سارس» [المناهضة للوحدة الخاصة بمكافحة السطو في الشرطة النيجيرية]، ومطالبة الشباب النيجيريّين بالحكم الرشيد وإنهاء القسوة الشُّرطية؟
ــ ذلك كان حدثاً مأساويا.ً بدأ بذرى النشوة. سررت للغاية وارتحت لكون جيل الشباب الذين طالما أسأت إليهم ورميتهم بالكسل وانتظار الخلاص، قد قاموا بعمل جماعي وتصدوا لأولئك المتوحشّين المعروفين بـ «سارس». وبالطبع لم يكن الأمر يتعلق فقط بوحدة «سارس» الشرطية. لقد كان أكبر من ذلك. كان تعبيراً عن سخط. شعرت أن شبابي يتجدد وأنا أرى تلك الحركة المهيكلة. قلت «ها هي أخيراً تحدث»، ثم ماذا جرى؟ استولى عليها البلطجية. استولى عليها الأشرار. تدخل العالم السفلي. أطلق سراح المساجين. كان أمراً باعثاً للغاية على الغم.

هل لديك أمل في مستقبل نيجيريا؟
ــ آه، الأمل. مرة أخرى، هذه كلمة لا أستعملها، شأن السعادة. حينما تذكر نيجيريا لا أعرف عن أي شيء تتكلم. لا أشعر حيالها بشيء لأنها انحرفت تمام الانحراف عما عرفته طفلاً بوصفه نيجيريا. لم أعد أعرف هذا البلد. هذه هي الحقيقة. وإذن، إجابتي على هذا السؤال شديدة الالتباس.

تبدو دائماً في صحة ممتازة. ما سرك؟
ــ تظن أنني أبدو بصحة جيدة. سأخبر زوجتي. أنا أعيش حياة طبيعية في ما أرجو. آكل أي شيء يوضع أمامي. إيبا، بطاطا مهروسة، أرز، عشب لسان الحمل. لا أحظى برعاية جسمانية خاصة. لا أجري. ولا أمارس، كيف يقولونها؟ التمارين. وبين الحين والآخر أخرج للصيد. أصطاد فقط ما يمكن أكله. لا لمسابقة أو رحلة سفاري. فلعل هذا هو السبب.
الأمل مرة أخرى، هذه كلمة لا أستعملها، شأن السعادة


ما رأيك في مشهد الكتابة الأفريقية المعاصرة؟
ــ صحي للغاية. ثمة مجموعة رائعة من الكتّاب الشبان، والكاتبات بصفة خاصة، ممن أصبحن فخراً للقارة.

سيرتك «آكي» من كتبي المفضلة على مر الزمن. أحببت قراءة مغامراتك مع والدتك التي تطلق عليها «المسيحية البرية». لا أعرف كيف نجوت بفعلتك تلك.
ــ سأحكي لك ما فعلته أمي ذات يوم. أطلقنا الكتاب في مدرسة آكي القديمة التي نشأت فيها. لم تكن أمي قد قرأته لكنها تعرضت للسخرية بسببه. فلما رجعنا إلى البيت، وسط كل أولئك الناس، جاءت إليّ، وتظاهرت أنها تريد أن تهمس بشيء في أذني، ثم أمسكت بها وقرصتها وقالت «هذه من أجل المسيحية البرية». فقلت لها «انظري، هذا ما يجعلني أطلق عليك المسيحية البرية. لقد فضحتني وسط كل هؤلاء الناس» وهذا ما فعلته حقاً.

هذه حكاية جميلة.
ــ سمّيتها بذلك الاسم لأنها كانت مؤمنة حقيقية. مسيحيتها كانت مسيحية برية. كانت تؤمن فعلاً أن بينها وبين الرب خط اتصال سرياً. فإذا وقع أي خطأ تقول «أنا التي أسأت إلى أبي الرب» فأقول لها إن «الأب الرب ليس مهتماً بما إذا كانت صبّت الزيت في المكان الصحيح أم لم تفعل. فهو مشغول عن هذا». فتجري ورائي. كانت أصيلة تماماً. بعدما هجرت المسيحية، ظللت أعجب كيف لشخص أن يكون بهذا القدر من الحماس. هناك ناس على هذه الشاكلة، وأنا أحترم هذا.

هل كان وولي الصغير في «آكي» ليصدق المدى الذي وصلت إليه: جائزة نوبل، والتكريمات، والمكان؟
ــ لا أعتقد أن هذا سؤال أستطيع أن أجيب عنه. لسبب بسيط هو أنني لم أتطلع يوماً إلى الشهرة. أردت الرضا والامتلاء وفقاً لمعاييري الشخصية. أردت أن أتمكّن من الحياة وحدي وأن أفعل ما أخطط لفعله، مهما يكن.

* نُشر الحوار في صحيفة «غارديان» البريطانية بتاريخ 25 أيلول (سبتمبر) 2021