الاغتصاب لا يؤدي إلى الحمل، لأنّ أحد شروط الحمل هو بلوغ المرأة النشوة الجنسية. إن لم تبلغها، فلن تحمل. وإذا حملت جراء اغتصاب، تكون قد وصلت إلى النشوة، ما يعني أنّها تمتعت بالعملية الجنسية، وما جرى ليس اغتصاباً. وعندما تتهم امرأة، رجلاً باغتصابها، لا يمكنها الذهاب إلى المحكمة أو الملك، بل إنّ ولي أمرها أو زوجها هو الذي يُرافع عنها. وإن لم يكن هناك إثبات لعملية الاغتصاب أمام المحكمة، يطلب ولي أمرها مبارزة المُغتصب حتى الموت، لتكون الحقيقة «في يد القدر والله». إذا مات المعتدي عليها، تكون هي الصادقة. أما إذا مات ولي أمرها، فتكون كاذبة ولم يحصل أي اغتصاب. وعليه، يُنفَّذ فيها حكم الادعاء الكاذب ضد رجل، وتكون العقوبة تعريتها، وحلق شعرها، ووضع طوق على رقبتها وربطها على عامود في الساحة وحرقها حيّة أمام الجميع. هذا ما ينص عليه القانون في فرنسا العصور الوسطى. وفي هذا الفضاء، يدور فيلم «المبارزة الأخيرة» (2021 ــ في الصالات اللبنانية) للمخرج ريدلي سكوت، المقتبس عن كتاب «المبارزة الأخيرة: قصة حقيقية لتجربة المحاكمة بالقتال في فرنسا العصور الوسطى» للكاتب إيريك جاغر.في القرن الرابع عشر، وتحديداً عام 1386، في خضم حرب المئة عام بين إنكلترا وفرنسا التي دمرت كلا البلدين، كانت مهمة الرجال الأساسية القتال من أجل ملكهم، ومهمة النساء الحَمل والإنجاب. في إحدى المعارك، يُنقذ حاملا الدروع جان دو كاروج (مات ديمون) وجاك لوغري (آدم درايڤر) بعضهما، لتنشأ لاحقاً صداقة بينهما. لكن شيئاً فشيئاً، تتدهور العلاقة بينهما بسبب الأراضي والمال وعلاقة جاك لوغري المقربة من الكونت بيار (بين أفليك). يبقى كل شيء بعيداً عن المواجهة المباشرة، إلى أن يأتي اليوم الذي تقول فيه مارغريت دو كاروج (جودي كومر) لزوجها جان بأنّ صديقه جاك اغتصبها، وترفض السكوت، مطالبةً بإظهار الحقيقة. تطلب منه الذهاب إلى محكمة الملك شارل السادس (أليكس لاوثر). هناك، يطالب جان بمبارزة جاك لتبيان الحقيقة.
الدقائق العشرون الأخيرة من «المبارزة الأخيرة» تشكّل قوة سكوت السينمائية


قسّم سكوت وكاتبا الفيلم (بن أفليك ومات دايمون) الشريط إلى ثلاثة فصول: «الحقيقة بالنسبة إلى جان» و«الحقيقة بالنسبة إلى جاك» و«الحقيقة بالنسبة إلى مارغريت»، بالإضافة إلى المبارزة النهائية. تشير هذه الحقائق إلى القصة التي تروى من قبل الثلاثة، وما حدث بالضبط بالنسبة إلى كل منهم، وكيف تصرّف كل واحد في أحداث معيّنة وفقاً لوجهة نظره الخاصّة. نشاهد الأحداث نفسها تقريباً ثلاث مرات. يحبّ سكوت أن يخبرنا بإسهاب، لكيلا نضيع في التفاصيل، لذلك الأمر يستغرق الكثير من الوقت (ساعتان ونصف الساعة تقريباً) لتقديم الأحداث من منظور الشخصيات الثلاث. لكن هذه الأحداث تتسلسل من دون أي توتّر عاطفي، فيما الأجزاء لا تزال ضائعة. ريدلي سكوت كان يجمع هذه الأحداث، ليجعلنا شهوداً في المحكمة، وهدف وجهات النظر الثلاث هو أن تجعلنا نشكك في كل الوقائع، لكن هذا لم يحدث. ما تغير في الأجزاء الثلاثة هو فقط الإيماءات الصغيرة في هذا الحدث الكبير، كأنّ ما كان يهمّه فقط هو الوصول إلى مشهد المبارزة، من دون وضعنا في حالة من الشكّ حول ما حدث. حاول سكوت أن يبني فيلماً معتمداً على قصص مختلفة، ولو أنّ حقيقة ما حدث تميل إلى كفة الراوي. يشبه الأمر تقريباً ما فعله أكيرا كوروساوا في فيلم «راشمون» (1950)، لكن هذا السيف ذا الحدين، كسره سكوت عندما أخبرنا حقيقة ما جرى، من دون أن يترك لنا أي مجال للشك.
نتعلم كل شيء في هذا الفيلم، عن الضرائب، الفرسان، كيف يعيش الفقراء والأغنياء، كيف أنّ كل شيء مغطّى بالطين والقذارة، الأوبئة التي تقضي على السكان والعمال الذين يقتلون بعضهم بعضاً، حتى رأينا نوتردام وهي قيد الإنشاء. شهدنا المنظومة الذكورية في ذروة تجلّيها: المعاملة الميزوجينية للنساء، فروضهنّ في تلك الحقبة، ونظرة القانون إليهن، وكيف كنّ ضحايا الاغتصاب يلتزمن الصمت كي لا يقتلنَ. في المحكمة، لا ترافع المرأة عن نفسها. إنّها مجرّد شيء يملكه الرجل الذي سيبارز للحفاظ على «شرفه». «المبارزة الأخيرة» تذكير صارخ ومحبط بأن القانون دائماً في خدمة الأقوياء والفكر الغيبي، فما يثبت أنّ المرأة تقول الحقيقة، هو «الله» من خلال قتال دموي.


جميل وممتع فيلم سكوت، لكنه لا يلمسنا في النهاية. كنا نتمنى لو أنّه لم يخبرنا الحقيقة، وتركنا معلّقين. لا ندري ما حدث بغض النظر عمن ربح المبارزة. الممثلون فعلوا المطلوب منهم، لكنهم انهاروا تحت ثقل الشخصيات الفاقدة للحياة. بالتأكيد أفليك وديمون لا يصلحان لدور الفارس والكونت، هناك شيء غير مريح في النظر إليهما كشخصيتين فرنسيتين. أما آدم درايڤر، فهو ممثل متلوِّن، وفي هذه السنة تحديداً، شارك في أكثر من ثلاثة أفلام بمواضيع وشخصيات مختلفة، تظهر مدى براعته. جودي كومر تشكّل ثقل الفيلم بدور المرأة التي لا يمكنها النطق بالكثير، لكنّ نظراتها وحركة جسدها تُنبئ بكل شيء. لا يزال ريدلي سكوت بارعاً في تصوير قتال دام ووحشي. «المبارزة الأخيرة» هو دراما للجمهور الصبور، الذي يتوق إلى قصة تتطوّر بهدوء. بصرف النظر عن كل ما سبق، فإنّ الدقائق العشرين الأخيرة من الفيلم تشكّل قوة سكوت السينمائية: القتال الشرس صوِّر بأكبر قدر ممكن من الواقعية. يضعنا سكوت في قلب المعركة المميتة حيث نسمع العظام تتكسّر، واللحم يتمزّق واليأس البشري يصرخ طالباً الموت السريع.

The Last Duel
في الصالات