فيما كان نجمه يسطع في ثمانينيات القرن الماضي ككوميديان، حصل جيري ساينفلد على فرصة إنجاز مسلسل لصالح NBC. طلب جيري من «عبقري كوميديا» آخر هو لاري ديفيد مساعدته في «طبخ» المشروع الجديد، فيما تولّت شركتا West-Shapiro Productions وCastle Rock Entertainment الإنتاج وColumbia Pictures Television التوزيع. بعد مرور 32 عاماً على انطلاقته، يبقى «ساينفلد» أحد أكثر البرامج التلفزيونية تأثيراً على الإطلاق. دخل المسلسل الكوميدي عالم البرامج التلفزيونية الهزلية في وقت كان لا يزال فيه هذا المجال يهزّ آخر خيوط العنكبوت لـ «ثورة» الـ «سيتكوم» التي ضربته في السبعينيات، واقترح بجرأة أنّ هذا النوع من الإنتاجات لا يحتاج لطرح قضايا مهمّة أو حتى استخدام أساليب رواية القصص التقليدية ليكون جيّداً وجذّاباً. بدلاً من ذلك، بالإمكان التركيز فقط على تفاصيل الحياة، الصغيرة والكبيرة التي تشكّل وجهات نظرنا. وفيما كان «ساينفلد» المفضّل في أوساط مروحة واسعة من النقّاد، تصدّر الموسمان السادس والتاسع تقييمات «نيلسن» إلى حين إسدال الستار عليه. حتّى إنّ نقابة الكتّاب الأميركيين صنّفته في المرتبة الثانية كصاحب أفضل نص درامي (بعد Sopranos مباشرةً). وفي بداية الشهر الحالي، كان مستخدمو منصة «نتفليكس» حول العالم على موعد مع الحلقات الـ 169 بعد إتمام صفقة ضخمة مدّتها ست سنوات قدّرت وسائل الإعلام المحلية قيمتها بأكثر من نصف مليار دولار.
لا شكّ في أنّ فكاهة جيري ساينفلد القائمة على دقة الملاحظة (observational comedy) أثّرت في العديد من العروض الأخرى في تلك الحقبة، بالإضافة إلى عروض أبصرت النور للمرّة الأولى بعد فترة طويلة من انتهاء المسلسل عام 1998 بعد تسعة مواسم. أصبحت فرضية «الأشخاص العزّاب الذين يعيشون في المدينة الكبيرة» محور كل مسلسل هزلي آخر على ما يبدو. لكن «ساينفلد» كان ضخماً جداً لدرجة أنّه ترك علامة فارقة في التلفزيون بطرق أخرى أقلّ وضوحاً، أبرزها أنّه غيّر طريقة كتابة الـ «سيتكوم» على الشاشة الصغيرة. ففيه، لم تكن هناك «قصة أ» و«قصة ب». في حلقة The Contest الشهيرة مثلاً، لكل شخصية قصة خاصة بها، قبل أن يتلاقى الأبطال الأربعة في اللحظات الأخيرة ليخلقوا كلّاً أكبر من أجزائه. أفضل حلقات «ساينفلد» تعدّ «تعويذات سحرية» لبناء القصة، حيث تتداخل النكات والحكايات مع بعضها بطرق يمكن أن تكون مثيرة مثل أي twist (تبدّل في مجرى الأحداث) في أي «دراما ثقيلة». ويمكن القول أيضاً إنّ «ساينفلد» روّج لفكرة البطل المضاد (anti-hero) في عالم الـ «سيتكوم» الأميركي. فقد جعلنا العمل توّاقين لمشاهدة مجموعة من «الحمقى الأنانيين»، مسلّطاً الضوء على شخصيات نسوية مؤثّرة جداً على رأسهنّ البطلة «إيلين بينيس»، إلى جانب تنبّؤه بسيطرة البيض على صناعة التلفزيون، فضلاً عن أنّه بشّر بنهاية الـ «سيتكوم» المصوّر بكاميرات عدّة (multi camera). في هذا السياق، وبالمقارنة بين عمل كلاسيكي كـ Cheers وآخر حديث كـ Modern Family، ندرك أنّه باستطاعتنا تقسيم تاريخ تطوّر الـ «سيتكوم» إلى فترتَيْن مع «ساينفلد» كخطّ فاصل تقريبي.
على خطٍ موازٍ، تتلاءم الركائز التي ينطلق منها «ساينفلد» مع فلسفة العبثية. إذ قد تحاول الشخصيات أن تعثر على معنى لحياتها لكنّها تفشل دائماً. ولهذا، فإنّ أشياء كالأمل والطموح والمودّة والشفقة والحب تكون مزدراة وممقوتة، وربما تؤدي ممارستها إلى فشل كوميدي ذريع. كما لم يخلُ المسلسل من فلسفة العدمية: كل شيء بلا قيمة والعلاقات فاشلة... جيري نفسه عبّر عن هذه النقطة تحديداً حين قال: «مهما أحاول، دائماً ما ينتهي بي الأمر دون جدوى».
روّج المسلسل لفكرة البطل المضاد (anti-hero) في التلفزيون الأميركي


تتركّز الأحداث في شقّة نيويوركية حول أربع شخصيات رئيسية. «جيري ساينفلد» الذي يؤدّيه ساينفلد بنفسه. نجم «ستاند ــ أب كوميدي» غالباً ما يمثّل «صوت المنطق» وسط الجنون في عالمه. عادةً ما يجد سبباً تافهاً ليقطع علاقته بالنساء، مثل طريقة أكل البازلاء أو الضحكة المزعجة أو اليدين الكبيرتين. وهناك «جورج كوستانزا» (جايسون ألكساندر) صديق جيري المقرب. شاب بخيل وغير أمين وغالباً ما يحسد الآخرين على إنجازاتهم، ويعكس صورة الفاشل الذي لا يثق بقدراته.
أما إيلين بينيس (جوليا لويس درايفوس) صديقة جيري السابقة، فجذّابة وذكية وحازمة، كما أنها صاخبة وأنانية وتظنّ أنّها الأفضل. تميل أحياناً للصدق مع الناس، ما يوقعها في المشاكل غالباً. وأخيراً وليس آخراً، «كوزمو كريمر» (مايكل ريتشاردز) جار جيري الأحمق. يبدو ساذجاً ومغفلاً وطفولياً أحياناً، لكنه قد يظهر دائماً بشكل عشوائي، فيما يستطيع تكوين الصداقات بسهولة بفضل أسلوبه الساحر والهادئ.
في كتابها الذي حقّق مبيعات هائلة Seinfeldia: How a Show About Nothing Changed Everything (سينفيلديا: كيف يغيّر عرض عن لا شيء كل شيء ــ صادر في 2016)، تشرح الكاتبة والمؤرخة التلفزيونية الأميركية جنيفر كيشين أرمسترونغ كيف أنه لا يزال تأثير «ساينفلد» على التلفزيون وثقافة البوب ​​مستمراً حتى اليوم. يتضح تأثير «ساينفلد» المالي تحديداً من خلال السنوات المربحة من العرض وإعادة العرض. هنا، يمكن التذكير بصفقة «هولو» الهائلة لعرضه، وأخيراً المبلغ الضخم الذي دفعته «نتفليكس» للاستحواذ على حق العرض.
في هذا الإطار، قالت أرمسترونغ: «لقد خلق «ساينفلد» اقتصاده الخاص... الأمر أشبه بآلة طباعة نقود في هذه المرحلة بالنسبة لأي شخص يتورّط في أي شيء له علاقة بهذا العمل». علماً بأنّ المسلسل حقق نجاحاً مالياً هائلاً خلال معظم سنواته على الهواء، مما أكسب NBC ما مجموعه 150 مليون دولار سنوياً في ذروته. وبحلول الموسم التاسع والأخير، كان جيري ساينفلد مثلاً يكسب مليون دولار عن كلّ حلقة. حاول المسؤولون التنفيذيون في NBC إقناعه بالعودة بموسم عاشر لقاء 5 ملايين دولار لكلّ حلقة، لكنّه لا يزال مصرّاً على الرفض. مع ذلك، بدّلت مفاوضات المسلسل الطريقة التي يتعيّن على البرامج التلفزيونية الناجحة الأخرى، مثل Friends، أن تدفع لنجومها على أساسها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنّ أبطال «ساينفلد» عادوا وظهروا في عدد من حلقات الموسم السابع من «سيتكوم» آخر شهير هو Curb Your Enthusiasm الذي يحمل توقيع لاري ديفيد.
لدى مشاركته في مؤتمر صحافي خاص بالترويج لتوافر «ساينفلد» على «نتفليكس»، أقرّ جيري ساينفلد للصحافيين بأنّ هناك عدداً من الحلقات التي يرغب في إجراء بعض التعديلات عليها، «لكنّني لا أؤمن حقاً من الناحية الفلسفية بالتغيير أو حتى التفكير في الماضي»، من دون أن يحدّدها.
ربّما لم يظن الممثلان الكوميديان لاري ديفيد وجيري ساينفلد أبداً أنّ أحداً سيشاهد الـ «سيتكوم» الذي تدور أحداثه حول فنان كوميدي يتسكّع ويتحدث إلى أصدقائه. لكن رغم كل الصعاب، كان ما يقرب من 40 مليون أميركي يتابعون العمل أسبوعياً، حتى إنّ عدد مشاهدي الحلقة الأخيرة بلغ 76.3 مليوناً. وفي النهاية، احتضن الناس بكل حبّ «جيري» المتعجرف، وجورج العصابي، وكرامر غريب الأطوار ، وإلين المتحمسة.

«ساينفلد»
متوافر على «نتفليكس»



جيري ساينفلد صهيوني!
لا يختلف اثنان على أنّ جيري ساينفلد (1954) من أيقونات الكوميديا حول العالم، لكن لا بد من الإشارة إلى أنّ صاحب برنامج Comedians in Cars Getting Coffee الذي سلّط الضوء خلال مسيرته الفنية الطويلة على قضايا أساسية عدّة، هو من داعمي الكيان الصهيوني. إلى جانب مواقفه المؤيدة لـ «إسرائيل»، فجّر ساينفلد موجة غضب عارمة في بداية عام 2018 بزيارته للأراضي المحتلة في إجازة برفقة عائلته. فالفنان الأميركي اليهودي المولود لأب مجري وأم سورية، زار في تلك الرحلة «معسكراً للتدريب على مكافحة الإرهاب» يقع في مستوطنة جوش عتصيون الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة. يومها، رحّبت أكاديمية Caliber 3 العسكرية بزوّارها بالقول على فايسبوك: «وأخيراً سُمح لنا بأن نخبركم! زارنا الأسطورة جيري ساينفلد برفقة عائلته... حضروا تدريباً على الرماية مع عروض قتالية، كراف ماغا وكلاب هجومية والكثير من الصهيونية. كان أمراً رائعاً». وبحسب ما ذكرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في ذلك الوقت، تعد Caliber 3 «أكاديمية تدريب على مكافحة الإرهاب والتدريب الأمني ​​التي استندت في السنوات الأخيرة على خبرتها لخلق خط جديد للأعمال: برامج خاصة للسياح الذين يبحثون عن طعم التجربة العسكرية الإسرائيلية».
وتابعت أنّ البرنامج «يقدّم حزمة أساسية تشمل محاكاة لتفجير انتحاري في سوق في القدس (المحتلة)، يليه مباشرة هجوم طعن، وتظاهرة حيّة مع الكلاب الهجومية وقناصة». ساينفلد الذي روّج لجيش الإحتلال الإسرائيلي الذي يمارس الإرهاب يومياً، قوبل بردود أفعال عنيفة من قبل الناشطين ومناصري القضايا الإنسانية والقضية الفلسطينية. فالأكاديمية التي تغنّى بها جيري تروّج للاحتلال العسكري والعنف الممارس على الشعب الفلسطيني الذي يعيش في الضفة الغربية وغزة، ناهيك بلصق صفة الإرهاب بالفلسطينيين الذين يعانون يومياً من بطش العدو وقهره.