كان | أهدى السينمائي الكندي غزافييه دولان (1989) الكروازيت واحدة من تلك اللحظات السحرية التي لم نشهد مثيلاً لها إلا ثلاث مرات فقط على مدى السنوات العشرين الأخيرة. التأثر الذي اجتاح الدورة 67 من "مهرجان كان السينمائي الدولي" أمس بعد عرض فيلمه Mommy، أعاد الى الأذهان الحماسة التي أثارتها روائع سابقة استطاعت بدورها هزّ وجدان رواد المهرجان، على غرار ما حدث عام ١٩٩٩، حين قدم بيدرو ألمودوفار رائعته «كل شيء عن أمي»، أو عام 2000، حين قدّم الأخوان كوين فيلمهما O'Brother الذي أصبح اليوم من كلاسيكيات سينما المؤلف، أو عام ٢٠٠٢، حين أبهر آكي كوريسماكي النقاد والجمهور برائعته «رجل بلا ماض».
سؤال واحد كان على جميع الألسن أمس: هل ستمتلك لجنة التحكيم الجسارة الكافية لمنح السعفة الذهبية الى سينمائي في الـ 25 من عمره؟ غزافييه دولان نجح في محو من الأذهان كل أفلام «الكبار» الذين سبقوه في دخول المسابقة (الأخوان داردين، نوري بيلج جيلان، ديفيد كروننبرغ، جان لوك غودار، ناعومي كاوازي...). منح المهرجان مفاجأة مدوية بلغ وقعها حدّ حجب الأضواء عن كين لوتش الذي قُدّم فيلمه Jimmy's Hall هو الآخر أمس الخميس، رغم القيمة الفنية العالية والروح الملحمية للعمل الذي استعاد سيرة زعيم اليسار الايرلندي، جيمي غرالتون (١٨٨٦ - ١٩٤٥).
وكانت الكروازيت قد اكتشفت النابغة الكندي الشاب عام ٢٠٠٩، حين قدم باكورته "قتلتُ أمي"، ضمن تظاهرة "أسبوعي المخرجين" (حصل على ثلاثة جوائز تشجيعة)، ثم عاد عام ٢٠١٠ بفيلمه الثاني «قصص الحب الوهمية»، ونال "جائزة الشباب" في تظاهرة «اسبوع النقاد». ودخل التشكيلة الرسمية للمرة الأولى في «مهرجان كان» عام ٢٠١٢، بفيلمه «لورانس في أحواله». لكن المفوض العام للمهرجان تيري فيرمو قرر عرض الفيلم في برنامج «نظرة ما» بدل مسابقة السعفة الذهبية، مبرراً ذلك «بصغر سنّ مخرجه»، ما أدى الى ملاسنة كلامية حادة بين الرجلين عبر الاعلام. ودفع ذلك الخلاف بدولان الى «مخاصمة» الكروازيت، فحطّ الرحال في «مهرجان البندقية» العام الماضي، بفيلمه الرابع «تومي في المزرعة»، حيث نال جائزة Fipresci. وإذا به يعود هذه السنة ليصنع الحدث في كان بفيلمه Mommy. إنّها قصة عائلية مؤثرة عن والدة تناضل من أجل الاحتفاظ بابنها المراهق المصاب باضطراب نفسي وسلوكي عنيف، رافضة إيداعه مصحةً نفسيةً متخصصةً. فضلاً عن الأداء المبهر الذي ظهر به الثنائي آن دورفال (دور الأم) وأنطوان أوليفييه بيلون (الابن)، أبهر الفيلم جمهور الكروازيت برؤيته الاخراجية العصرية التي استعارت رموز وتقنيات الثقافة الرقمية الشبابية الحديثة. تلاعب المخرج بمقاس الشاشة التي تم تقطيعها عمودياً، بحيث تشبه شاشة الأشرطة المصوّرة عبر كاميرات الهواتف الخليوية، ليراوغ مشاهديه خلال لحظات السعادة النادرة في الفيلم. كانت الصورة تتسع تدريجاً لتتخذ المقاس التقليدي لشاشات السينما، بشكلها المستطيل أفقياً، ثم تعود لتضيق وتصبح عمودية في لحظات التوتر والتأزم في العلاقة الاشكالية بين الام وابنها المشاكس.
واذا وافقت لجنة التحكيم برئاسة الاسترالية جاين كامبيون على الهوى العام لرواد الكروازيت، ومنحت السعفة للنابغة الشاب، سيكون غزافييه دولان أصغر سينمائي ينال «السعفة» منذ لوي مال (١٩٣٢ ــ ١٩٩٥) الذي حازها عام ١٩٥٦ عن رائعته «عالم الصمت».