الضجة التي أثارها كتابها الأول «أن تقرأ لوليتا في طهران» (2003)، وضع آذر نفيسي (1955) في الواجهة، فها هي كاتبة إيرانية تميط اللثام عن علاقتها بأحد أشهر الكتب المحرّمة، نقصد كتاب «لوليتا» للكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف. أشعل هذا العمل الجدل، وجعل مواطنها المفكر حميد دبشي يدرج هذه الروائية ضمن خانة «المثقف الكومبرادوري» الذي يعمل في خدمة الاستعمار في كتابه «بشرة سمراء، أقنعة بيضاء» (2011 ـ الأخبار 28/2/2014).
على المنوال نفسه، تنسج الروائية كتابها الجديد «أشياء كنت ساكتةً عنها» الذي صدر عام 2008 وانتقل أخيراً إلى العربية (دار الجمل ــ تعريب علي عبد الأمير صالح) لجهة الخوض في تاريخ إيران والتحولات التي طرأت على المشهد السياسي والاجتماعي في عهد الشاه محمد رضا بهلوي وما بعده. هكذا، تعود إلى الجذور، فتوقظ الحكايات النائمة في ذاكرتها عن أسرتها وبلادها. لطالما كانت في طفولتها أسيرة الحكايات الخيالية التي كان يرويها لها والدها، فيما كانت أمها تخترع سيرة خيالية لتاريخها الشخصي. بين حكايات الأم والأب، تخطّ الابنة طريقاً ثالثة لاستجلاء الحقائق المغيّبة. وقبل ذلك كله، أرادت أن تكتشف معنى الفقدان، خصوصاً بعد رحيل أمها، وهي بعيدة عنها، فكما تقول «أردت أن أكتب قصة عن مفهومي للفقد، وكيف يمكن أن أستعيد ما خسرته عبر فعل الكتابة، أريد أن أعيد اكتشاف أمي، واستعيد ما خسرته هي، وما خسرته أنا في غيابها».

يخوض كتابها «أشياء
كنت ساكتةً عنها» في تاريخ
إيران وتحولاتها

لا تتوانى آذر نفيسي عن نبش أسرار طفولتها وصباها الأول في طهران. نشأت الطفلة في عائلة مثقفة، فالأب كان محافظاً للعاصمة الإيرانية، قبل أن تحاك ضده مؤامرة على يد وزير الداخلية في عهد الشاه، ليُزج في السجن. أما الأم فتنتمي إلى عائلة ثرية. الشجار لن يتوقف يوماً بين الأم وابنتها، فيما كان الأب يودع أسراره عند ابنته، محاولاً أن يعيش حياته الأخرى، بعيداً عن بيت الزوجة. لم يكن أحمد نفيسي شخصية عادية، فهو شاعر أولاً، كما أنّه مخزن حكايات كان يستمدها من التراث الفارسي القديم، وقد نقل هذا الولع إلى ابنته. «الشاهنامة» للفردوسي واحد من الكتب الأثيرة التي رافقت رحلة الابنة، مثلما كانت أشعار الشاعرة الإيرانية المتمرّدة فروغ فرخزاد، ملهمة لرغباتها في التحرّر من التقاليد الصارمة. تتوقف آذر نفيسي عند محطات أساسية في حياتها الشخصية، من السفر للدراسة في بريطانيا ثم أميركا، مروراً بفشل علاقاتها الغرامية، إلى خيبتها كيسارية بعدما اكتسحت مفاهيم الثورة الإسلامية مفاصل الحياة في إيران. لم تكن هذه الأكاديمية مولعة بحكم الشاه قبل خلعه عن العرش، لكنها في المقابل لم تقبل بأن تكون رهينة في أيدي المتشددين. بدأت المضايقات في الحرم الجامعي، فانتخبت بعض طلابها في مناقشات نقدية خارج أسوار الجامعة، إلى أن مُنعت نهائياً من التدريس كمحصلة لرفضها ارتداء «التشادور». كذلك لم يسلم زوجها بيجان نادري من مضايقات مشابهة، فاضطرا إلى مغادرة البلاد إلى أميركا (1995)، إذ «لم يعد الوطن وطناً» كما تقول. في أميركا، علمت أن أمها تحتضر في أحد مشافي طهران، ونظراً إلى صعوبة عودتها إلى البلاد، عوّضت هذا الغياب القسري بمخزونها من ألبوم الصور العائلية التي أحضرتها معها قبل مغادرتها (سنجد بعض هذه الصور في ثنايا الكتاب). كما استعانت بيوميات والدها التي كتبها أثناء فترة اعتقاله، مستعيدة سيرتها المنسية، وفقاً لرؤية
الأب.
هنا، تسللت إلى بعض أسراره الغرامية، في مخطوطة غير منشورة، والمكابدات التي عاشها مع أمها «نزهت خانوم»، وصولاً إلى هجره منزل العائلة والزواج بامرأة أخرى، من دون إهمال حكاية عشقه للموروث الفارسي القديم. ليس هذا الكتاب تصفية حساب مع النظام الإيراني، بقدر ما هو مقولة في الخسارات، وفوات الأوان في ترميم العلاقة بين الابنة والأم، بإعادة تدوين سيرة موازية للبهجة المفتقدة عن طريق الكتابة لمواجهة الظلال الثقيلة للنسيان. هكذا، صالحت آذر نفيسي أمها بالكتابة عنها، كما تشتهي، لكنها ستدين بالفضل لوالدها في المقام الأول. هو أول من أرشدها إلى حكمة الكتب، والشغف بالحياة، والتمرّد على السكونية، وعدم السكوت حيال الظلم، وتبجيل الخيال. لهذه الأسباب ربما، كانت الروايات أحد مصادرها في كتابة السيرة، فما تكتبه هنا هو مزيج من الوقائع والحكايات المتخيّلة. كأنها تستعير إحدى شطحات أمها في اختراع سيرتها المشتهاة، وسيرة الحنين إلى بلاد باتت بعيدة، ولو عن طريق الصور الفوتوغرافية، والذكريات. «أصبحت ذكرى أمي تسيطر عليّ كهاجس لا فكاك منه حين غادرتُ إيران، وقد سرقتُ منها كل صورها الفوتوغرافية القديمة التي كانت بحوزتها. وحين كانت مريضةً لم يكن بوسعي العودة إلي بلدي، كنتُ أواصل النظر إلى صورها وأتخيل الأشياء التي فقدتَها»، وتضيف «أحسست أنني أريد أن أكتب عنها في سياق ذلك التاريخ. لذا فأنا لستُ متأكدة كم سيكون من كتابي هذا سيرة شخصية وكم سيكون منه تاريخ».