هذه اللعنة تصيب كل الفئات والطبقات الاجتماعية بلا استثناء! إنّها لعنة أن تولدي امرأةً تفضحها الشاعرة هيام يارد (1975) في روايتها الفرنسية الثالثة «اللعنة» الصادرة عن «مطبوعات دي إكواتور». هلا الشابة التي تربت في مدرسة كاثوليكية محافظة، تتحمّل تزمّت والدتها التي تضطهدها بسبب معشرها وشراهتها للطعام وشهوانيتها ووزنها. لكن هلا ستتمرّد، وتعي الملذّات وتستكشف جسدها. ستعيش هذه الشابة أنوثتها في بلاد حيث المرأة خاضعة لسلطة الرجل وهيمنة الدين وتزمّت الأمهات.
يرتكز الكتاب على الجسد، فهو حجر الزاوية في الرواية وفي بناء شخصية البطلة. تجري الأحداث في مجتمع يخضع للسيادة الذكورية وبلد ينوء تحت هيمنة الجيش السوري (في صورة مجازية إلى هيمنة الرجل؟). تقارن يارد بين هلا الخاضعة لسلطة والدتها ثمّ حماتها، وبين البلد الذي يعيش تحت جزمة العسكر. مثل هلا، البلد مجرد تابع لم يبلغ سنّ الرشد بعد.
ظنّت هلا أن الزواج سيخلّصها من والدتها، لكنها واجهت مصيراً أسوأ مع حماتها. نكتشف لاحقاً أن النساء هنّ من يحافظن على استمرارية النظام الذكوري الذي تنمّيه الأمهات من خلال تربية أشقاء وأزواج المستقبل، وعبر فرض سلوك معيّن يخضع البنات والكنّات.

اللافت في الرواية أنّ يارد تمنح النساء/ حارسات النظام الذكوري، سلطةً شبه مطلقة في ظلّ غياب شبه كامل للرجل كالأب والابن. الأمّ تحبّ ابنها إلى درجة أنها «تمحي ملامح وجهه»: «في يوم زفافه، كانت ملامح وجهه قد زالت»، فزوج هلا يعاني من مرض أفقده تدريجاً أعضاء جسمه. لكنّ اختفاءه الجسدي ما هو إلا تعبير مجازي عن اختفاء هويته الخاصة التي طمستها والدته.
يشكّل الجسد عامل التوتر في النصّ، تتجاذبه قوى المحرّمات. هو واحد من مسببات الاحباط ووسيلة للتعبير عن الذات في آونة واحدة. إذاً، يمكن القول بأنّ «اللعنة» هي مانيفستو ينادي بانعتاق الجسد. تتناول يارد الشبق الجنسي في رواية «اللعنة» وفي ديوانها الأخير «جمالية الافتراس» Esthétique de la prédation من منطلق إعادة استملاك الجسد، أي الحق في استخدامه كأداة خاضعة لإرادة صاحبه وحده من دون أن يكون رهيناً «لعمل اجتماعي أو عمل عام، يكون فيه مجرد وسيلة للإنجاب والنسل تضمن استمرار المجتمع بل المجتمع الذكوري».
مع اضمحلال زوج هلا، تضطر الأخيرة إلى مواجهة المشاكل المرتبطة بهيمنة القوانين الدينية في لبنان التي غالباً ما تظلم المرأة، خصوصاً في ما يتعلق بحضانة الأطفال، فتبدو المرأة هنا مجرد غرض يملكه المجتمع الذي يغتال شخصيتها. إذاً، القانون يدمّر العشق لأنه يسعى إلى قوننته.
إنّ هيام على حق في التشكيك بالحب، خصوصاً حبّ الأهل لأولادهم «فمن هنا يبدأ التلاعب»، إذ إن الروابط العاطفية ما هي إلا محاولة أولى للتلاعب النفسي وللسيطرة الغادرة التي تبدأ من الأهل الساعين إلى فرض تحكّم مطلق، رافضين الاعتراف بفردية أبنائهم. وتمتد محاولات السيطرة لتشمل القوانين الدينية والعقليات العشائرية والاقطاعية التي نلاحظها في الإطار السياسي والعائلي.
ليست هناك أي فسحة للفرد، فالأم التي تنغمس في حبّ ابنها الصبي، لا تتردد في مداعبة عضوه التناسلي (ممارسة ثقافية من سفاح القربى، يتعيّن أن يعاقب عليها القانون في لبنان، كما هي الحال في أماكن أخرى من العالم)، فتنتهك حرمة الثنائي وتدعو نفسها إلى سرير ابنها الزوجي من خلال استراق السمع خلف الباب لتتنصت على ابنها وهو «يخترق» جسد هلا.
مع فقدان الحرية، تتخذ الحميمية بعداً يشبه سفاح القربى الذي يتجسّد بشكله النفسي في «اللعنة».
تقول هيام: «فكرياً، كانت الأم معنا عند ممارسة الجماع». يكشف سلوك الأم المنحرف العلاقات العائلية التي يخيّم عليها سفاح القربى من خلال رفض مفهوم المساحة الشخصية. كلّ محاولة للابتعاد تُواجه بإشعار صاحب هذه المحاولة بالذنب.
وتضيف يارد: «يتعين إذاً الاستسلام للجماع النفسي العاطفي الذي تفرضه العائلة والمجتمع. فما أن تنتقدوا عائلتكم ومحيطكم حتى يتم نبذكم على الفور، ولا يقبلكم أيّ مكان آخر. من شأن هذه الضغوط الاجتماعية أن تمنعكم من تكوين ذكاء مستقل. في نهاية المطاف، يستسلم كثيرون في ظلّ كلّ هذه الشراسة، فيقدّمون التنازلات بعد أن ينهكهم القتال ضد نظام/ العائلة والمجتمع والطائفة الذي يدعونا للخضوع إليه، أو يستسلمون بسبب عدم رغبتهم في القتال طوال حياتهم. في إطار الثورات العربية، نلفت إلى الصعوبات التي تواجهها الحريّات الشخصية وتعتبر الطريق الممهد للحرية الجماعية».