هناك سببان لمشاهدة «ديون» (2021) على أكبر شاشة يمكن العثور عليها. أولاً، لأنّ الصورة مدهشة إلى درجة أنّه حتى أكبر شاشة لا يمكن أن تكون كافية. ثانياً، لأنّ القصة مستمرة، ونريدها أن تستمرّ لأنها بدأت للتو (أو هذا إحساسنا طوال الشريط). «ديون» لدوني ڤيلنوڤ، الذي طرح أخيراً في الصالات، لا يغطي سوى الجزء الأول من رواية فرانك هيربرت (راجع الكادر أدناه). ولكي يُنصف هذا الإرث الأدبي الذي يحمله على كتفيه، لا يزال أمام المخرج الكندي الكثير من الأحداث ليخوضها في الصحراء، وشخصيات يكشفها ببطء وعمق وقضايا متشعّبة ومتناسلة.لا ضرورة للخوض في القصة، لأنّه يستحيل تلخيصها في بضعة أسطر، خصوصاً أنّ الرواية محمّلة ومشحونة بالرموز والقضايا الدينية، والسياسية، والميثولوجية، والفلسفية، والعلمية، والإنسانية، وحتى الحيوانية... لذلك، فتلخيصها سيفقدها بريقها. لكن لكلّ من لم يقرأ الرواية، لا داعٍ للقلق، سيقدّم الفيلم القصة كما جاءت في الكتاب. المعارك السياسية واضحة، من دون أن تطول أو تدخل في أساطير معقدة للغاية، ولا هروب من المونولوجات الداخلية التي طبعت الرواية. فيلم ڤيلنوڤ كلاسيكي يعتمد على الخيال البصري والمؤثرات السمعية البصرية الخاصة، والأزياء والشعر والمكياج والمنازل والكواكب والأسلحة والمركبات. إنّه عبارة عن مزيج متعدد من الثقافات والحضارات، أهمها الحضارة العربية التي تميّز الرواية.

على الرغم من طوله (ساعتان ونصف الساعة)، لم يفلت الشريط من يدي المخرج أبداً: ذروة من التألق والعبقرية السينمائية والأدبية، إلى جانب حمل العبء (غير المحسوس تقريباً) المتمثل في تكرار الأنماط الدرامية الموروثة من القصص النموذجية لـ «المخلّص» بما في ذلك المكون المسيحي أو الإسلامي والديني بشكل عام. فرض ڤيلنوڤ علينا أسلوباً يبعدنا جذرياً عن الأبطال الذين يشكّلون روح الفيلم والرواية. يتم التعامل مع الشخصيات من خلال الكاميرا (وعلى الورق) ببرودة، يحرمها من كل الدفء البشري تقريباً، حتى في أكثر اللحظات البطولية والعاطفية.
ذروة من التألق والعبقرية السينمائية والأدبية

اختار المخرج هذه الطريقة ليس لمحو الشخصيات، بل لتقديم القصة والجزء الأول من الرواية على أنّها قطعة خيال علمي منشغلة بالصراعات الجيوسياسية أكثر من الصراعات العاطفية التي يتضمّنها في الكتاب والتي سوف تبدأ مع الأجزاء المقبلة من الفيلم. لولا هذا السرد المبسّط الذي طبع الجزء الأول، لما كان «ديون» قادراً على أن يكون واحداً من أروع العروض السينمائية في السنوات الأخيرة. على الرغم من أنّ الفيلم (الجزء الأول) لا يقارب الجانب البيئي بشكل مباشر، ولا الشخصيات بعمق كبير كما ذكرنا سابقاً، إلا أنه يتعمق في نقده للإمبريالية المستوحاة من الصراعات في منطقتنا. وهذا عنصر حاضر في الرواية، ولكنّ أحداثاً كثيرة وقعت منذ الستينيات من القرن المنصرم (صدرت الرواية عام 1965). إنّها قصة قوة إمبراطورية استعمارية تسعى إلى استغلال الموارد الطبيعية لإقليم ما، فتقرّر شنّ الحروب وارتكاب الإبادات الجماعية لتحقيق ذلك (لم يتغيّر شيء منذ فجر التاريخ!)...


يُعد «ديون» وفيّاً للرواية، نقل ڤيلنوڤ النص الأصلي إلى السينما ولم يفسره. قدمه كما هو، ولم يحاول دمج فكرته الخاصة. أوبرا الفضاء هذه، مليئة بالحركة، قريبة إلى سينما أكشن الفضاء وفي الوقت نفسه محمّلة بروح السينما الشاعرية. تركنا ڤيلنوڤ بعد ساعتين ونصف الساعة نرغب في المزيد، في الغوص بشكل أعمق. وعلى الرغم من ضخامة الإنتاج والإبهار السينمائي، فمن غير المرجح أن يصبح الفيلم قطعة كلاسيكية أبدية ومرجعيّة في الخيال العلمي. لكن مَن يدري؟ فآخر كلمات الفيلم كانت: «هذه مجرد بداية».


من لينش إلى خودوروفسكي... قصة «عويصة»
كتب فرانك هيربرت «ديون» عام 1965 على جزأين. ثم مع توالي السنوات، أنجز خمس تتمات. تدور أحداث «ديون» في مستقبل بعيد جداً، وتحديداً عام 10191، حيث الأسر النبيلة تسيطر على كواكب وتسكنها، والمجرة يسيطر عليها إمبراطور. كجزء من مؤامرة سياسية مُضمرة، يضطر الدوق ليتو، كبير أسرة اتريدس، للخروج من كوكب كالادان الفردوسي لاستعمار كوكب أراكس الصحراوي، المعروف باسم «ديون» بأمر من الإمبراطور. المناخ في «ديون» معادٍ بشكل مخيف. المياه نادرة جداً، إلى درجة أنه كلّما خرج سكانها من بيوتهم، يتوجّب عليهم ارتداء ملابس ضيقة تحفظ رطوبة الجسم وتعيد تدوير تعرّقهم لجعله مياهاً صالحة للشرب. العدو الأكبر لأسرة اتريدس هي أسرة هاركونان. اعتادت هاركونان على استعمار «ديون» لأنّ هذا الكوكب الصحراوي ذو أهمية استراتيجية. صحراؤه الجنوبية هي المكان الوحيد في المجرّة، حيث يتم استخراج سلعة ذات قيمة خيالية تسمّى «التوابل». الأخيرة ذات خصائص كثيرة ومفيدة تشمل تفعيل نوع من الإدراك المكاني والزماني لدى طيّاري المركبات الفضائية بين النجوم. وبدونها، سينهار نظام الاتصالات والنقل بالكامل في الإمبراطورية. تسبّب «التوابل» الإدمان بشكل كبير وتملك آثاراً جانبية تتمثل في تحويل عين المستخدم إلى اللون الأزرق الغامق. يعد استخراج التوابل أمراً خطيراً، ليس بسبب مخاطر العواصف الرملية وهجمات البدو فحسب، ولكن أيضاً لأنّ الضوضاء تجذب الديدان الرملية العملاقة، التي يبلغ طولها مئات الأمتار، وهي تسافر عبر الكثبان الرملية مثل الحيتان عبر المحيط.
هل تخلّت عائلة هاركونان عن «ديون»؟ بالطبع لا. هذه المؤامرة السياسية ستنتج خيانةً ومأساةً وحمّام دماء، ينجو منه فقط الشاب بول (تيموثي شالاميه في فيلم فيلنوف)، ابن الدوق ليتو ليهرب في الصحراء الشاسعة برفقة والدته (تجسّدها ريبيكا لويزا فيرغسون ساندستروم). بول يتمتع بعلامات نضوج كوني، ويشكّ الناس في أنّه قد يكون «المهدي» أو «المسيح» أو «المخلّص» الذي تنبأت به الأساطير القديمة. والدته، جيسيكا، هي من روّاد قوة نسائية في النظام الأبوي للمجرّة، منضمة إلى أخوة دينية انخرطت فيها الأخوات في السحر منذ آلاف السنين، وشكلت عملية تحديد نسل، قد يكون بول نتيجتها.
قصة عظيمة شابتها خيبات أمل سينمائية كبيرة. في عام 1983، حاول المخرج الأميركي ديڤيد لينش اقتباس الرواية إلى الشاشة الكبيرة، والنتيجة كانت كارثية. تدخّل الممنتجون كثيراً، وقيِّدت حرية لينش الإبداعية بشكل كبير. فشل المشروع وصرّح لينش يومها إنّ الفيلم كان تجربة كارثية كادت أن تكلّفه مسيرته المهنية. قبله، كان المخرج التشيلي أليخاندرو خودوروفسكي أول من أراد نقلها إلى السينما، ولكن أفكار المخرج الذي أراد جمع فنانين كباراً من الأكثر إثارةً وجنوناً في عصره ليمثلوا في الفيلم أمثال سلڤادور دالي، وأورسون ويلز، لم يتم تمويلها من قبل هوليوود. تعرّض الفيلم للكثير من العقبات والمشكلات، التي شكلت نواة وثائقي «خودوروفسكي ديون» (إخراج فرانك بافيتش ـــ 2013).

Dune في الصالات