انبثقت بوادر التجديد في الشعر الفارسي في مستهل القرن الفائت بعد تغييرات جذرية طرأت على الحركة الثقافية الإيرانية في مجالي المسرح والرواية، فيما ساهمت ترجمة روائع الروايات الفرنسية والإنكليزية والروسية في ضخ روح جديدة في النثر الفارسي، مما جعله ينفتح على قاموس الحياة اليومية. كانت النقلة النوعية الأولى في مضامين الشعر الفارسي على يد مجموعة من الشعراء الصحافيين؛ انتموا إلى اتجاهات سياسية وتيارات فكرية مختلفة، كان العديد منهم يرأس تحرير صحف يومية وأسبوعية، كمحمد تقي بهار (1886-1951) صاحب صحيفة «نوبهار»، أبي القاسم لاهوتي، أديب بيشاوري (1842-1931)، أيرج ميرزا جلال الممالك (1874-1925)، عارف قزويني (1838-1929) وميرزادة عشقي (1893-1924)، وهم شعراء اتسمت قصائدهم بنفس ثوري رومانسي. أما على صعيد التقنية فلم يسهم هؤلاء الشعراء المنخرطون في النضال السياسي بتقديم رؤية جديدة أو شكل جديد، غير أننا لا نستطيع إنكار دورهم في وضع حد للقصيدة التقليدية وإبداع قصيدة ناضلت معهم من أجل تحقيق مكاسب اجتماعية، وإن لم تخل من مسحة الحزن الرومانسي الذي يبلغ أحياناً حد النرجسية. بادر هؤلاء مع غيرهم إلى كسر الأوزان الشعرية والتمرد على ثوابت القصيدة الكلاسيكية؛ كتقي رفعت، جعفر خامنئي، شمس كسمائي وأبي القاسم إلهامي. أما الطريق إلى الثورة، حتى على مستوى الشكل، فسيطلقها علي إسفندياري الملّقب بنيما يوشيج (1897-1960)، رائد الشعر الفارسي المعاصر بلا منازع. زاوج نيما يوشيج تجربته الشعرية (وبحكم تضلعه في اللغة الفرنسية التي درسها في مدرسة سان ــ لوي في طهران) بما نهله من الشعر الفرنسي الرومانسي. ويرى بعض النقاد أن النجاح لم يكن ليحالف تجربة هذا الشاعر لولا مزاوجته بين الرومانسية الكلاسيكية الفارسية المتمثلة بنتاج «المدرسة العراقية » وعلى رأسها حافظ الشيرازي والرومانسية الكلاسيكية الفرنسية. وبسبب الاختناق السياسي الذي شهدته البلاد بعد انتهاء الفسحة الديمقراطية 1942-1947، انتهج نيما يوشيج الرمزية في قصائده ووظف حكايات ذات دلالات رمزية كـ «كليلة ودمنة» وقصص مستوحاة من الأدب الفارسي الكلاسيكي. كما كتب قصائد عديدة اتسمت بالذهنية المفرطة. بعد يوشيج، واصل جيل شعري تلاه مسيرته، ممثّلا بأحمد شاملو، مهدي أخوان ثالث، فريدون مشيري، منوجهر آتشي، نصرت رحماني، نادر نادربور، رضا براهني، محمد حقوقي، سهراب سبهري، محمد علي سبانلو وفروغ فرخزاد وآخرين. نادراً ما نلحظ غياب صدى الواقع الاجتماعي في الشعرية الفارسية (باستثناء الشاعر سهراب سبهري). أفرط بعض شعراء هذا الجيل في محاكاة الواقع الاجتماعي إلى أن أنهك القصيدة بتقريرية مملة. أما المحاولات الأكثر أهمية في ترسيخ مكانة قصيدة النثر، فقد جاءت مع جماعة «الموجة الجديدة » في ستينات القرن الماضي وأرست مناخات جديدة في الشعرية الفارسية، ومن أبرز رموزها الشاعر أحمد رضا أحمدي الذي تتسم قصائده بمهارة عالية في المزج بين الفكرة والصورة الحسية واعتماد الذائقة البصرية عبر تداعيات ذهنية تمنح المخيلة فضاء شاسعاً لتفصح عن رغبة عميقة في الهروب من الواقع أو التعالي عليه رغم توظيف مفرداته؛ والشاعر يد الله رؤيائي الذي اهتم في منجزه بتفجير اللغة وإثرائها بمفردات ودلالات جديدة. منذ التسعينات إلى يومنا هذا، يشهد المشهد الشعري الفارسي انفتاحاً على اتجاهات متنوعة بتنوع المصادر الثقافية وتجارب مهمة مسكونة بهاجس التجريب وتقويض النمطية السائدة، أصوات شعرية همّها ابتداع جماليات جديدة وقصائد تحمل في طياتها مستويات عديدة من التواصل مع الذات والعالم.— المترجِم —

1ـــ سلْمان الْهرّاتي: هديّة
(إلى پابْلو نيرودا)
جغْرافيتنا
من الشّجر إلى الْبحْر
تسْتقْبل الْحوادث الْحمْراء.
تحْليق الطّيور ممْتع للنّظر.
رغْم كلّ معْرفتي بك
في حيْرة أنا
لم لمْ تكْملْ طيور سواحل الْكاريبي ديْمومة عيْنيْك
في تلْك الْاسْتضافة الزّرْقاء؟
يؤْسفني غيابك
وإلّا لأهْديْتك باقة ورْد محمّديّ
لتسمّم بعطْرها
كلّ طغاة الْعالم.

2 ـــ روجا جمنكار (1980-):
دعاء الحصان في قعر الفنجان
وحدقتاه تضيقان
وتعصران حنجرتي.
مثل طرق الجنوب،
ظلي يتمطّى على الجدار المواجه لسرير رطب.
هطلت أمطار غزيرة على آثار قدميك
ولا أرض أغور في أعماقها.
بعد الظهيرة
بلا أمهات عاد الأطفال من المدرسة.
رائحة القهوة تلتف حول رقبتي
أتلوى ألماً
ذلك أن الماء
أزال ذات يوم جميع التجاعيد من فستاني.
في جوار صبايا مرعوبات
مررت كوحش
بضفائري التي جرحت حوافر الطريق الأربعة
وفي جوار الرحم التي أفرغت أعماقهن
وذلك الشعور الثقيل الرازح في كف الرجل
يوما إثر يوم
ينقص شيء ما من جسدي
لا قعر للفنجان
والحصان يأبى الهبوط.
تحت طاق البستان
يداي على شاكلة صليب
وتماثيل حجرية ذات تسعة أعوام صفقت لي
خرائب قبل التاريخ تنهار فوق رأسي وجسدي وذاتي
البحر يواصل الضغط على نفسه
والمرفأ نام على رائحة القهوة
أقسم بالملح وحبات الرمان الحامضة
لا حصان ولا جسر
مع ذلك فقد مرّ الرجل ليلاً
قولوا للأعمدة الحجرية ولتوأمي في بغداد
إن العروس نائمة على حرير أسود.

3 ـــ سهْرابْ سپهْري: عنْوان
— أيْن بيْت الصّديق؟
هكذا تساءل الْفارس، فجْراً
تأنّت السّماء
أهْدى الْعابر غصْن النّور الْمتدلّي منْ شفتيْه لظلْمة الرّمال
وأشار بإصْبعه إلى صنوْبرة، وقال:
— قبْل الشّجرة،
ثمّة نسيم أكْثر اخْضراراً منْ حلْم الله
هناك الْعشْق أزْرق بحجْم أجْنحة الصّداقة
تذْهب إلى نهاية ذلك الزّقاق الّذي يفْضي إلى الْبلوغ
ثمّ تدْلف نحْو ورْدة الْعزْلة
قاب قدميْن من الْورْدة
تمْكث عنْد النّافورة الْخالدة لأساطير الْأرْض
ستنْتابك رهْبة شفيفة
ستسْمع في صفاء الْفضاء خشْخشة
ترى طفْلاً تسلّق صنوْبرة شامخة
ليخْرج منْ عشّ النّور فرْخاً
هناك تسْأله: ــ أيْن بيْت الصّديق؟!

4 ـــ صادقْ رحْماني:
أخْضر أحْمر في 3 حركات

أ. قنْديل
في هذه الْحديقة الْمظْلمة
كلّ غصْن
أضاء قنْديلاً بتفّاحة حمْراء

ب. سكّين
التّفاحة الّتي شطرتْ بدقّة إلى نصْفيْن
أنْظرْ
أنْظرْ إلى عدالة السّكّين

ج. تفّاحة
كما شجرة
يا لروْعة التّحْديق بالْعالم
مجرّد التّحْديق
وإلّا فالسّلالم الْمتلصّصة
تدْرك جيّداً
أنّ ما منْ تفّاحة يمْكن اقْتطافها

5ـــ أحمد رضا أحمدي: باقة ورد
في غفْلة منّا
فقدْنا باقة ورْد
كنّا حريصين على حيازتها
لمْ نتوقّعْ قطّ أنْ تخْلو حياتنا منْ وجودها
كنّا نتساءل دائماً:
«أبسبب الْإرْهاق
خسرْنا تلْك الْباقة؟»
ذات ليْلة ماطرة
جاء إلى بيْتنا رجل وقال:
«بالْأمْس رأيْت باقتكمْ
في طابور بمحطّة باص،
كانتْ متوسّطة الْقامة،
ترْتدي معْطفاً مشمّعاً بألْوان زاهية،
بعْد محطّة، ترجّلتْ معي من الْحافلة،
زوّدتْني بعنْوانكمْ وأصرّتْ على أنْ أزوركمْ
لطمْأنتكمْ أنّها بخيْر ».
حين رحل الضّيْف، رأيْنا من النّافذة
شابّاً يقدّم باقة ورْد لفتاة خرجتْ على عجل من الْمقْهى
رمت الْفتاة باقة الْورْد في السّاقية
ركض الْفتى نحْو الْباقة
لكنّها توارتْ تحْت الْقنْطرة.
قالتْ لي زوْجتي:
«عليْنا أنْ نفكّر بباقة ورْد أخْرى،
ما زلْنا في ريعان الْحياة »

6 ـــ أحمد شاملو: قصيدة حب
ذاك الذي يقول أحبك
ما هو إلا مطرب حزين فقد أغنيته
الحب
ليته كان قادراً على الكلام
ألف هدهد مبتهج في عينيكِ
ألف كناري حزين في حنجرتي
الحب
ليته كان قادراً على الكلام.
ذاك الذي يقول أحبك
إنما هو قلب حزين لليلة
تبحث عن قمرها
الحب
ليته كان قادراً على الكلام.
ألف شمس ضاحكة في تبختركِ
ألف نجمة باكية
في أمنياتي
الحب
ليته كان قادراً على الكلام