كان | في العام ٢٠١١، حين قدّم السينمائيان البلجيكيان جان بيار ولوك داردين، رائعتهما «صبي الدراجة» في «مهرجان كان السينمائي»، طُرح السؤال للمرة الأولى على الكروازيت: هل ستمنح لهما السعفة الذهبية للمرة الثالثة، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ مهرجان؟ لكن لجنة التحكيم اكتفت آنذاك بمنحهما الجائزة الكبرى، ثاني أهم جوائز المهرجان. وها هو السؤال ذاته يعود الى الواجهة، بعدما أبهر جديدهما «يومان وليلة» رواد الدورة الـ 67 من المهرجان، ببنتيه الاخراجية الجريئة والمحكمة التي جعلت الفيلم تحفة فنية تضاهي السهل الممتنع!
يروي الفيلم قصة عاملة مصنع تقضي يومي نهاية الاسبوع في طرق أبواب بيوت زملائها في العمل، ساعيةً لاقناعهم بالتخلي عن علاواتهم السنوية، كما يشترط صاحب المصنع، للسماح لها بالحفاظ على عملها ومورد زرقها. ومن خلال هذه الرحلة المطولة، يغوص التوأم الأشهر في تاريخ السينما الأوروبية عميقاً في عوالم العمّال البسطاء الذين يواجهون صغوطاً متزايدة من قبل سلطة المال، وقد شرّعت العولمة الزاحفة الأبواب أمامها للعبث بمصائر الناس ومصالح الطبقات العاملة، إرضاءً لجشع المستثمرين. هؤلاء لا يتورعون عن تدمير البينة الصناعية وتمزيق النسيج الاجتماعي الذي يشكّل عماد السلم والتوازن بين الدول وداخل الدولة الواحدة، وذلك بدافع وحيد هو الركض المستمر واللامحدود وراء مراكمة الثروات وتحقيق المكسب السهل والسريع.
هذه المرافعة الاجتماعية ذات النفس اليساري تحتلّ مكانة مركزية في الافلام المشاركة هذه السنة (راجع «الاخبار» - عدد الاثنين ١٩/5/2014)، لكنها تأتي هنا مغلّفة في قالب فني وحبكة اخراجية ساحرين. على مدى شهرين، أخضع الاخوان داردين فريق الممثلين لسلسلة من التمرينات الشاقة، كأنهم يستعدون للتمثيل في عمل مسرحي، ثم تم التصوير خلال نهاية اسبوع واحدة، بأدوات مينمالية منحت الفيلم تميزه الفني وبنيته المغايرة. هكذا، يبدو الشريط أشبه ببرامج تلفزيون الواقع حيث تصوّر المشاهد مباشرة من دون أي «رتوش" أو مؤثرات أو خدع بصرية أو جمالية، ما سمح للفيلم بأن يمسك بتفاصيل الحياة وأشيائها الصغيرة، ويعكسها على الشاشة بلغة بصرية أخاذة وبواقعية وعفوية لم يسبق أن شاهدناهما في أي عمل سينمائي آخر، باستثناء رائعة المعلم الايراني عباس كياروستامي المينمالية «عشرة» (٢٠٠٢).
كالعادة في أعمال الأخوين داردين، من «روزيتا" (السعفة الذهبية - ١٩٩٩) الى «صبي الدراجة" (الجائزة الكبرى - ٢٠١١)، مروراً بـ «الطفل» (السعفة الذهبية - ٢٠٠٥)، و"صمت لورنا» (جائزة أفضل سيناريو - ٢٠٠٨)، يهدي التوأم لبطلة الفيلم الجديد النجمة ماريون كوتيّار، دوراً ساحراً يضعها في موقع الصدارة في السباق نحو جائزة أفضل ممثلة. وكانت هذه الجائزة قد أفلتت من بطلة La Môme في العام الماضي، خلافاً لكل التوقعات، بعد أدائها المبهر في فيلم «عن الصدأ والعظام» لجاك أوديار. وتتطلّع كوتيار لهذه الجائزة بعدما حازت الأوسكار عام ٢٠٠٨، عن دور البطولة الذي تقصمت فيه شخصية المغنية الفرنسية الراحلة إديت بياف تحت ادارة المخرج أوليفييه داهان. واذا حازت جائزة أفضل ممثلة في كان هذه السنة، كما هو مرجح من قبل غالبية النقاد، فسيكون ذلك تتويجاً طبيعياً ومستحقاً لواحدة من أبرز نجمات الجيل الجديد اللواتي قفزن الى واجهة السينما الفرنسية مع مطلع الألفية الجديدة.