على الرغم من أنّ دراسة التاريخ الشفوي في العالم قد بدأت منذ منتصف القرن العشرين، إلا أنّ المؤرخين الكلاسيكيّين ما زالوا في صراعٍ معه. يعود ذلك الصراع إلى أسبابٍ عدّة أبرزها أنّهم يعتمدون على الوثائق لا على ذاكرة الناس التي هي ـــ وبحكم طبيعتها البشرية ـــ إنتقائيّة وقابلة للنّسيان. لا يمكن إنكار أنّ هذا الأمر علميّ ومنطقيّ إلى حدٍ ما، لكنّه يستسلم بخنوعٍ للسّلطة الحاكمة التي تستطيع التلاعب، كما إخفاء وإنشاء الأرقام والحقائق على حدٍ سواء. فماذا لو كان المُهيمن على البلد قوة استعماريّة؟ وماذا لو خلَفها احتلالٌ للأرض عمل بشكلٍ ممنهجٍ على إتلاف الأرشيفات؛ والاستيلاء على المكتبات وإحراق المؤسسات والبيوت بما فيها من أوراق وإثباتات هامة؟ الاهتمام بالتاريخ الشفوي الفلسطيني وتدوينه مع النّاجين من النكبة عام 1948 بدأ مع الرائدة في هذا المجال روزماري صايغ، الباحثة الأنثروبولوجية البريطانية، زوجة الراحل يوسف صايغ (الاقتصادي والباحث الفلسطيني)، وإن كانت قد سبقتها بعامٍ واحدٍ دراسة للمؤرّخ نافذ نزال تحت عنوان «الهجرة الفلسطينية من الجليل». نشرت صايغ كتابها الأول في عام 1979، المعنون «الفلاحون الفلسطينيون: من الاقتلاع إلى الثورة»، وقد اعتُبر مرجعاً في الدراسات المتعلقة بتاريخ فلسطين الحديث. كرّت من بعدها السّبحة، فكانت هناك دراسات أكاديمية عدّة استندت إلى مقابلات مع الجيل الأول للنكبة في محاولاتٍ لسد الثغرات وكتابة تاريخٍ بديل مقاومٍ للاحتلال الصهيوني ورواياته. لكن تبقى هذه الدراسات والكتب أقلّ من حاجة الشعب الفلسطيني لاسترداد ماضيه الذي سُلبَ منه بقوة السلاح وافتعال المجازر.
يأتي كتاب «أصوات النكبة: تاريخٌ حيّ لفلسطين» للباحثة البريطانية ــ الأميركية ديانا ألان، أستاذة الأنثروبولوجيا في «جامعة مكغيل» في كندا، (صادر باللّغة الإنكليزية عن «بلوتو برس» في لندن) ليُضيف إلى جهود من سبقوها. يكلّل هذا الكتاب مشروعها الذي بدأت العمل عليه مع الناشط الفلسطيني محمود زيدان في عام 2002، لخلق «أرشيف النكبة» الذي بات يحتوي على 500 تسجيل بالصوت والصورة، لفلسطينيّين هُجّروا من 132 قرية. انطلقت ألان من مخيم شاتيلا في بيروت، حيث سكنت لسنوات عدّة وكتبت عنه مقالات أكاديمية، ثم نشرت كتابها الأول المبنيّ على دراساتها للمخيم. لاحقاً، تطوّر مشروع الأرشيف ليشمل المخيمات الإثني عشر التي أنشأتها الأونروا، بالإضافة إلى التجمّعات غير الرسمية في لبنان. في عام 2010، تبرّعت ألان بضمّ شهادات جيل النكبة إلى أرشيف التاريخ الشفهي الفلسطيني (Palestinian Oral History Archive- POHA) في مكتبة «الجامعة الأميركية في بيروت»، فأصبح متاحاً للباحثين والدارسين والمهتمين منذ عام 2019.
مدارس الأونروا لا تسمح بتدريس طلابها تاريخ فلسطين الحديث


يشكّل هذا البحث، دراسةً جديدة تستحقّ أن يطّلع عليها كلّ من هو مهتم بتاريخ فلسطين الحديث منذ الانتداب البريطاني إلى النكبة، وما تلاها من تهجير قسري. يقوم الكتاب ــ ولربما للمرة الأولى في تاريخ هذه النوعية من الدراسات ــ على أربعة أبوابٍ تتناول مواضيع رئيسيّة رُتّبت وفقاً للتسلسل الزمني: الحياة في فلسطين قبل عام 1948، الانتداب البريطاني والمقاومة الفلسطينية والعربية، الحرب والتطهير العرقي والهروب والنّفي. يحتوي كل جزءٍ من الكتاب على ثلاثة فصولٍ كتبها باحثون متنوّعون، باستثناء الباب الأول الذي يضمّ أربعة فصول. يعمل معظم المشاركين في الكتاب كأساتذة جامعيّين في جامعات معروفة مثل: بيرزيت في فلسطين، جامعة لندن، جامعة كاليفورنيا في سانتا باربارا وجامعة مونتريال في كندا. فضلاً عن هذا، فإنّ معظمهم لديه مؤلفات عن فلسطين، على سبيل المثال لا الحصر: سلمان أبو ستّة المؤرخ الفلسطيني المعروف، صاحب «أطلس فلسطين 1917- 1966» (2010)، ومديرة مركز الدراسات العربية المعاصرة في «جامعة جورج تاون»، روشيل ديفيس مؤلّفة كتاب «تاريخ القرى الفلسطينية: جغرافية الشتات» (2011).
تنطلق ألان في مقدمة الكتاب من السؤال عن معنى النكبة، الذي طرحه المؤرخ القومي العربي الراحل قسطنطين زريق في كتابه «معنى النكبة» (1948). تحاول الإجابة عنه عبر مجموعة المقابلات التي بُنيت عليها هذه الدراسة، بلسان الجيل الأول الذي يروي في شهاداته عن أسلوب الحياة القروي قبل النكبة، والتعليم الذي حصّله (أو لم يفعل)، وما عايشه خلال ثورة الـ36، وما رأى بأمّ عينه من اقتحامات للقرى، وإعدام جماعي، ومجازر وحشية. بالاستناد إلى كلام المؤرخ الفلسطيني جوزيف مسعد، تشرح الباحثة أنّ النكبة لم تكن يوماً الحدث الذي حصل في عام 1948 وانتهى بعد التطهير العرقي للفلسطينيين والنزوح؛ بل يجب تحديدها على أنّها «نكبة مستمرة» يعيشها الفلسطيني منذ بدء تنفيذ المخطط الصهيوني، إلى طرد الفلسطينيين من أراضيهم، واللجوء، وكل ما مرّ عليهم بعد النكبة. نجد النكبة في حال المخيمات وسكانها المحرومين من الجنسية ومن حقوقهم المدنية في لبنان، وفي مجزرة صبرا وشاتيلا، وفي الصدمة الجمعية التي يتعايش معها الناجون، كما في كل معاناة تمرّ على أجيال الشعب الفلسطيني منذ عام 1948.



في تقديمه لتاريخ الفترات الزمنية والأحداث، يعتمد الكتاب على ثلاثين شهادة لمجموعة من الرجال والنساء من «جيل النكبة»، اختيروا لتنوّع انتماءاتهم الدينية والاجتماعية والطبقية، فكان من بينهم المسيحيون، المسلمون، الفلاحون، فقراء المدن، والنخبة المثقفة. هذه الشهادات/ المقابلات نجدها مكتوبة في كل فصل، فالفصل الثاني عشر على سبيل المثال، يحوي مقاطع من مقابلتين للحاجة صبحية سلامة، المولودة في الزاهريّة في فلسطين والتي تقطن في مخيم عين الحلوة في صيدا، ومقابلة ثانية للحاجة آمنة بنات من قرية الشيخ دنّون (والمعروفة باسم «أم عزيز الديراوي» في مخيم برج البراجنة في بيروت) التي فقدت أربعة من أبنائها في اجتياح بيروت عام 1982. أمّا الفصل الحادي عشر، فيتناول مجزرة اللّد التي نفذها العدو الصهيوني في التاسع/ العاشر من تموز (يوليو) وفقاً لـ «عملية داني» والتي راح ضحيّتها مئات الفلسطينيين. بالإضافة إلى المصادر التاريخية والأكاديمية، يستند هذا الفصل إلى مقابلتين مع الفنان الفلسطيني الراحل اسماعيل شمّوط، ورينيه كوته Renee Kutih المولودة في رام الله.
في نهاية الكتاب كلمة للباحثة صايغ تعرض فيها أزمة تعليم التاريخ الفلسطيني، فليس هناك من كتاب لهذا التاريخ. كما أنّ مدارس الأونروا لا تسمح بتدريس طلابها تاريخ فلسطين الحديث. هذا الأمر يعزّز من أهمية «أرشيف النكبة» والألف ساعة من التسجيلات التي يحويها، مما دفع ألان إلى استكمال العمل على المشروع عبر تحويله إلى أرشيفٍ رقميّ (موقع إلكتروني يجري العمل عليه حالياً) تُضاف إليه مواد إبداعية (قصص قصيرة، وربما قصص مصورة)، كما تحميل بعض المواد التعليمية ومساهماتٍ من مؤلفين وفنانين تساعد في إغناء الموقع وجعله متاحاً للأساتذة والدارسين المهتمين في تدريس تاريخ النكبة.
كتابٌ مهمٌ يجب ترجمته سريعاً إلى اللغة العربية، ذلك أنَّ المعلومات التي بداخله ستسهم كثيراً في الإضاءة على جوانب مهمّة من تاريخ فلسطين. يُعاب عليه بالتأكيد أنه أكاديمي إلى حدٍ كبير، مما يُفقده قدرة التواصل مع القارئ العادي، ولربما حتى هو كُتِبَ للباحث الغربي قبل العربي في الأساس، لكن هذا لا يمنع - البتة - أنه جهدٌ كبير.