«ولكن هناك دائماً ما ننساه/ أنظر إلى تلك الأم تغطّي وجهها بيديها ثم تبعدهما فجأة وهي تضحك/ والطفل يضحك كلّ مرةٍ يخرج وجه أمّه/ إنّه يتمرّن الآن على أنْ يثق بالغياب/ أنْ يحتمل الفقد، أنّ أمّه ستعود بنفس الوجه/ بنفس الحبّ كما تركته/ هكذا سنتعلّم أنْ لا نفزع حين يخرج أحبتنا من البيت/ أنْ لا نخاف من الخسارة كلّما غابوا عنا لدقائق». بهذا التيه الشعري الدافئ، تحرص الشاعرة والمُؤلّفة المسرحية الفلسطينية داليا طه (1986) في عملها الشعريّ الجديد «سيرة سكان مدينة ر» (دار الأهلية، 2021) على تكريس اسمها داخل مُدوّنة الشعر العربي الجديد. تكشف عن جملة اشتغالاتٍ جماليّة رافقت مسيرتها الإبداعية منذ باكورتها «شرفة ولا أحد» (2009) مروراً بـ «أقل مجازاً» (2011). لكنّها هنا أكثر اهتماماً بتفاصيل حياتها اليومية، أيْ أنّ ذائقتها الشعرية لا تخرج عن مُكاشفات الذات والأحلام السرمدية والرؤى المُتوهّجة، بما يجعل الجسد مُختبراً لأسئلة الشعر وقلقه. إنّ مفهوم الجسد عند داليا طه بمثابة كائنٍ حيّ مُستقّل عن الروح. فهو مُوجّه لفعل الكتابة لدرجة يغدو معها الواقع مُجرّد مادّة شعريّة لتطويع صُوَره وآلامه، إنّها ترسم براديغماً مُغايراً للشعر المعاصر الحافل بالانتصارات الواهية، رغم أنّ مفهوم «القلق» يظلّ مُستبدّاً بنصّها الشعري ويُرافق دوماً حياتها اليوميّة والسراديب الباردة ليُعلن انتصاره الخاص على كلّ ما هو تافهٍ ومُلتبس في سيرة الكائن وُجرحه. داليا طه شاعرة ترصد بسيرة اليوميّ، لا لأنّها راكمت مُنجزاً شعرياً منذ الألفية الجديدة، بل لأنّها جعلت الشعر ملاذاً يحتفي بالعابر والزائل والهامشيّ والمنسيّ في حياتنا اليومية. إنّها تُطارد الإشارات لا الأضواء، الروح لا الجسد، المُعتم بدل المُبتهج الغامض، الصورة لا السيمولاكر، ما يعني أنّها تبحث في سيرة اللامرئي، بوصفه مادة شعريّة لكتابة غير مُؤجّلة. ما ينبغي أنْ يُكتب اليوم لا يُؤجّل إلى الغد، لأنّ للأخير كتابته وآلامه وسيرته وصُوَره وألقه. «في سيرة سكان مدينة ر»، تبحث داليا طه عن خصوصية شعريّة ذات ميسمٍ خاص داخل شعرٍ فلسطينيّ أصبحت نصوصه ذات أثر بالغٍ في تشكّل النصّ الشعريّ العربي. فهي تكتفي بنوعٍ من اللّغة البيضاء، حيث للصورة بلاغتها أكثر من اللغة نفسها. فهذه الأخيرة ليست مسكناً للوجود بتعبير هايدغر، لأنّ وجود الصورة وتشكّلها في ذهن القارئ يبدو سابقاً على وجودها، ما يجعل خصوصيات نصّها الشعري بمثابة قصائدٍ تُدرك، لأنّ شعريّتها تُبنى على تناصٍ قوي مع الواقع، باعتباره مُعطى فيزيقيّاً مُكوّناً من جملة أشياءٍ مادية تلقائية ومُركّبة بشكلٍ يستدعي أنْ تُدرك لا أنْ تُفكَّر.
تتبدّى ملامح صورة مدينة «ر» في طفولتها وأحلامها وانكساراتها وأوجاعها أمام قهر الاحتلال وعنفه


تُطالعنا داليا طه لتلفت انتباهنا إلى أنّ جسد النصّ الشعري هشّ لدرجة أنْه لا يستطيع تحمّل وتملّك كل القضايا السياسيّة والإشكالات الاجتماعية والثورات الثقافيّة التي تطال المنظومة العربيّة سياسياً واجتماعياً. من ثمّ، فهي تُؤسّس رؤيتها للكتابة الشعريّة وفق مسارٍ خاصّ، يجعل من تفاصيل ونتوءات اليوميّ أفقاً للتفكير وكتابة شعرية مُتقشّفة مُختلفة عن ركام بعض التجارب الشعريّة الجديدة ذات التدريب الإنشائي الذي يحبل به الشعر العربي المعاصر. إنّ داليا طه لا تستعرض عضلاتها شعرياً ولا تشتغل على مفهومٍ فكري ولا على سياق تاريخيّ ولا حتّى على قضيّة سياسيّة، فهي معنيّة بجسدها وتشابكه مع الواقع المُنفلت الذي تعيش فيه. الجسد، الواقع، الذات، الآخر، الحبّ، الأمومة، الطفولة، البراءة، الدهشة، الوجود، المرأة. هذه هي تيماتها الشعريّة المُنسابة عبر شلال الحكي وفق نظامٍ شعريّ يجمع بين الأبيات القصيرة ذات البوح الوجداني والكتلة السرديّة ذات النفس السرديّ التأمّليّ. إنّها عناصر جماليّة بقدر ما يُخيَّل للقارئ أنّها تُدرج نقدياً في خانة الكتابة العَالمة المُستندة على التجريب الشعريّ وطرق وآليات كتابة الشعر المعاصر في العالم. لكنّها سرعان ما تُفنّد هذا الشعور الذي ينتاب الآخر ويجتاح مُخيّلته تجاه كتابتها الشعريّة. لأنّها ليست وقتاً مُستقطعاً من فُسحة وصيرورة حياتها. وإنّما حالة أنطولوجيّة تفرض على جسد الشاعرة تطويع اليوميّ شعرياً وجعله مادّة للتفكير والكتابة والمُكاشفة والتخييل.


أوّل ما يشدّ الانتباه في عملها، هو عتبة عناوينها الطويلة، ما يكشف سرّ داليا طه في اعتمادها على الكتلة السرديّة. بالرغم من عدم الاشتغال عليها كتابة، إلاّ أنّها تُرخي بظلالها على جسد الشاعرة لدرجة تتحكّم بذائقتها الشعرية على مستوى بناء النصّ: «لا يوجد أمل/ ولكن توجد طريقٌ طويلة/ اسمها الحياة/ يوجد ليلٌ ويوجد شجر/ توجد شوارع ضيّقة/ يوجد شخصان يتهامسان في ليلةٍ حالكة/ بينما الكلّ ينام/ توجد ظلالٌ/ وأزهارٌ غريبة». هذا المحكي الشعري البسيط، يُميّزها عن تجارب جيلها كونها تُقيم جداراً من العزلة والنفي والاختبار الجمالي القاسيّ على كتابتها. ليس سهلاً على الشاعرة أنْ تصل إلى كلّ هذه الشعرية البيضاء الصافية القريبة من لغة الصفر حيث اللغة تُلامس بدهشةٍ حفيف المُخيّلة لتدخل في شغاف الروح وأدغال اليوميّ وتُقيم طباقاً بصرياً بين جسد الإنسان والواقع. هكذا تُضمر داليا ببراعةٍ في شعريّتها تناقضاً قويّاً وصورة مُرعبة عن حقيقة واقعنا وما نحلم أنْ يكون عليه يوماً. إنّها ترصد بشكلٍ غير مُباشر سيرة سكّان مدينة «ر» حيث يمتزج صوت الشعر بالأضواء والأجساد والأصوات والصورة والانكسارات، لكنّ ثمّة خيطاً ناظماً مُتمثّلاً في الصورة، هو ما يجعل أفق هذا المحكي شعراً لا سرداً أو لغة تقريرية. إنّ صورها الشعريّة تمعن في تناقض الأشياء وحالات يأس الوجود وارتباك الناس، رغم أنّ القارئ قد يشعر بنوعٍ من الملل تجاه تكرار اليوميّ، إلاّ أنّ ارتفاع منسوب الشعر وتفاصيله ونتوءاته، تجعل من هذا الممل ذاته مادّة شعريّة، إلى درجة أنّ القارئ قد يُخيَّلُ إليه أنّ داليا طه، تُحاكي صور ومَشاهد فيلم «باترسون» (2016) لجيم جارموش، حيث يعمل البطل (آدم درايفر) على تطويع يوميّاته إلى شعر وصورة وماء ونور. لكن ما توالي صفحات الديوان الشعري، تتبدّى جيّداً ملامح صورة مدينة «ر» في طفولتها وأحلامها وانكساراتها وأوجاعها أمام قهر الاحتلال وعنفه. هنا تُصبح الصورة الشعريّة أكثر عرياً من استعاراتها ومجازاتها كونها تتوغّل في إدانة تاريخ عنف الاحتلال، وتُعرّي من خلال كتابة يرتفع فيها منسوب سردٍ يرصد إشارات وصوراً تُموقعها بعناية بدون فواصل أو نقاط أحياناً داخل قالبٍ شعري مفتوح مثل النهر. تقول على لسان زوجة رجل معتقل: «جاؤوا الساعة الثانية فجراً/ كسروا الباب/ ووقفوا مكانه/ وهم يحملون آلات قتلٍ كما لو أنّها باقاتٌ من الزهور/ دخلوا إلى البيت/ كلابهم معهم/ بصقاتهم/ وأقنعتهم/ثم وضعونا جميعاً في غرفةٍ أنا وأولادي/ وبملابس ثقيلة كما لو أنّها مغرّقة بالماء».