الرباط | تنتمي المُؤرّخة المغربيّة ليلى مَزيان، إلى فئة أكاديميّة قليلة، ما زالت داخل الجامعة المغربيّة تشتغل بصمت وبضميرٍ مهنيّ مُنشغل بالقراءة والسفر المعرفي والبحث والتنقيب العلمي في مناهج وقضايا وإشكالات ذات علاقة بتاريخ المغرب الحديث. ورغم أنّ صاحبة كتاب «الشرق والبحر المتوسّط ما وراء الحدود» ( L’oriental et la Méditerranée au-delà des frontières الصادر حديثاً عن منشورات «مفترق الطرق») فرنكفونية التفكير، وعياً وثقافة وكتابةً، فإنّ ذلك، لم يجعلها بعيدة عن التأليف التاريخي العربي، لأنّ للمرأة نصيباً كبيراً ووافراً من تاريخ الثقافة المغربيّة وتُعبّر عنها دوماً بصيغٍ مُختلفة من الندوات واللقاءات داخل مُختبر الجامعة وخارجها في مُدنٍ غربية عدة. أضف إلى ذلك أنّ فرنكفونية ليلى مَزيان، ليست إلاّ لغة دراسة وتحصيلٍ ومعارف، لا باعتبارها سياسة تُنفي اللغة الأم، مع العلم أنّ صاحبة «سلا وقراصنتها» تتكلّمها جيّداً وتُجيدها قراءة وتدريساً وكتابة. لكن دراستها باللغتين الفرنسية والإسبانية خارج المغرب، جعلتها تكتب باللغة الفرنسيّة وتُنقّب من خلالها في تاريخ المغرب الحديث. هذا الأمر أتاح لليلى مَزيان أنْ تغدو في طليعة المُؤرّخين المغاربة الجُدد الذين راكموا بحوثاً تاريخيّة قويّة البُنيان تتّسم بنوعٍ من الخرق المعرفي على مُستوى طبيعة الكتابات التاريخيّة الفقهية الموجودة داخل المغرب. ثقافة مُتشعّبة تُغذيها مَزيان بإتقانها عدّة لغات: فرنسية، إسبانية، برتغالية، فهي تتحدّثها بطلاقة وتبحث من خلالها عن المكبوت والمنسيّ في تاريخ المغرب. هكذا، يكون مفهوم البحث استقصائياً، يستند إلى تواريخ مُحدّدة وتفاصيل دقيقة تتعلّق بتاريخ المغرب وتقاطعاته مع ثقافات وتواريخ بلدان أخرى، عوض اللجوء إلى كتابة رومانسية حالمة، تحتكم إلى الذات ومَشاغلها الوجدانية أو حتّى اعتماد الوثائق التاريخيّة الرسميّة، التي تُوفّرها السُلطة وأعيانها عمداً لكتابة تاريخٍ وطنيّ مُنفعل ومُرتبك.
باعتمادها على سلاح اللغة، تكون مَزيان قد ولجت صوب مداراتٍ أخرى من التفكير والبحث والتقصّي، حيث تُصبح الكتابة التاريخيّة عبارةً عن أسئلة قلقة تُربك الجسد وترجّ السلالات التاريخيّة وتهدم معابد تأليفٍ تاريخي يختصر الكتابة المغربية في تاريخ المقاومة المُسلّحة والحركة الوطنية والسلفية والمُطالبة بالإصلاح والاستقلال. هذه الموضوعات السياسيّة، التي سبق للمُؤرّخ الفرنسي فرانسوا سيميان، أنْ سمّاها بـ «أصنام قبيلة المؤرخين»، لم تعُد ناجعة على مستوى التفكير والبحث. فواقع الكتابة التاريخيّة قد تغيّر بشكلٍ كليّ ومعه تحوّل الهامش إلى مركز، حيث دخلت الصورة (فنيّة، سينمائية، فوتوغرافية) إلى رحابة الفكر التاريخي وأضحت بمثابة وثيقة تاريخية، كما يذهب إلى ذلك المُؤرّخ الفرنسيّ مارك فيرو. بما يجعل مفهوم الوثيقة التاريخيّة أكثر توسّعاً وتشعّباً على مدارات الصورة ومُتخيّلها، بدل الركون إلى وثائق باتت مُبتذلة من فرط تكرارها واستخدامها. ليست الوثيقة التاريخيّة لدى ليلى مَزيان مجرّد أداة منهجية تتعمّدها كيْ تُعطي الانطباع للقارئ أنّ كتاباتها عملية وذات ميسمٍ تاريخيّ. إذْ تُصبح لديها بمثابة جسدٍ حيّ كلّما غيّرت ملامحه تجدّد من الداخل، لأنّ وثائقها نابعة من السجلين الإسباني والبرتغالي، كما أنّ رؤيتها العلمية في مقاربة مجال التاريخ البحري، ذات نزعة علمية تستند إلى التقاليد الفرنسيّة في كتابة تاريخٍ جدلي، يتعامل مع المادّة التاريخيّة (الأرشيف) بمبدأ تركيبيّ يُموضعها في قالبٍ إشكاليّ، حيث يغدو التأليف التاريخي بمثابة امتداد لنمطٍ فكري، كما نعثر على ملامح ذلك في كتابات عبد الله العروي.
تنقّب في تاريخ المغرب الحديث، وعلاقته بالسواحل خلال منتصف القرن السادس عشر


مع ذلك، فإنّ هذا التحوّل الأنطولوجي، لم يفطن إليه الباحثون (باستثناء البعض) على مستوى تجديد التعامل مع الوثائق التاريخيّة. على هذا الأساس، تأتي كتابات ليلى مَزيان، لتُعيد تصويب رؤيتنا قليلاً صوب مجالاتٍ أكثر حدّة أضحى لها طابع الاهتمام والتداول داخل التأليف التاريخيّ المعاصر. مؤلّفاتٌ تاريخيّة قليلة، لكنّها مُؤثّرة استطاعت من خلالها تكريس اسمها كأهم الباحثات العربيّات في مجال التاريخ البحري وتراثه ومُعجمه. والسبب راجعٌ إلى كون مَزيان تبني أفقها النظري والتاريخي على دراسة طويلة لوثائق إسبانية وبرتغالية، قبل ترجمتها وتفكيكها وتأويلها وكتابتها وإعادة التفكير في مضامينها، وما تُتيحه من معلوماتٍ جديدة بالنظر إلى السياق التاريخي الذي تبحث فيه. هذا في مقابل تأليفٍ تاريخيّ، يغلب عليه نوعٌ من «السلفية» القاتلة لكلّ فعلٍ علمي ونفحة تجديدية، باستثناء فئة أكاديمية قليلة.
ثمّة موضة اليوم داخل البحث العلمي. لقد أصبح الكلّ يُعبّر ويدّعي تشبّثه بآراء وأطاريح «مدرسة الحوليات» مع كل من لوسيان فيبر ومارك بلوك، ثمّ «التاريخ الجديد» لدى جاك لوغوف وفرناند بروديل. إلاّ أنّ قراءة واستيعاب متون وأفكار ومفاهيم هؤلاء المُؤرّخين/ المُفكّرين، تظلّ قابعة في المغرب على مستوى القراءة، ولا تتجاوز معطيات واقع البحث العلمي كتابةً. إذْ كيف يدّعي باحث بامتلاكه آراء وعدّة بروديل المفاهيميّة والفكرية والتاريخيّة، وهو يُنجز أطروحة تقليدية هشّة حول المُقاومة المسلّحة؟


من جهتها، تنقّب ليلى مَزيان وتحفر في تاريخ المغرب الحديث، في علاقته بالسواحل المغربيّة خلال منتصف القرن السادس عشر، وما فرضته هذه المرحلة التاريخيّة من بروز لمواضيع وقضايا مركزيّة تتّصل بنظام قراصنة البحر الأبيض المُتوسّط. وسّعت مَزيان أفق اشتغالاتها بالبحث في موضوعات أخرى تتعلّق بالمُعجم البحري وتراث الساحل ومصطلحاته. ألسنا هنا أمام كتابة جديدة للتاريخ المغربي، تمزج الحدث التاريخيّ بانعكاساته على المُدن والمجتمع ككل؟ كتابةٌ تنأى عن الأحداث السياسيّة الكاذبة التي راكمها مُؤرّخو السلاطين لصالح تأليفٍ يُعيد موقعة جزء كبير من الهامش وجعله يحتل المركز بعد سنوات طويلة من الحصار المعرفي. كتابها الهامّ «سلا وقراصنتها: 1666 ـــ 1727» الذي هو أساساً عبارة عن رسالة دكتوراه أشرف عليها المُؤرّخ الفرنسيّ الكبير أندري زيسبرغ المُتخصّص في التاريخ البحري للحقبة الحديثة، شكّل حدثاً هامّاً لحظة صدوره في المغرب، لأنّه كسر ــ معرفياً ــ طبيعة البحوث التاريخية، وقدّم رؤية جديدة لتاريخ المغرب الحديث، تبدأ بالنبش في وثائق هامشيّة مُختلفة ومُتباينة، تتناول علاقة القراصنة بالبحر وغاراتهم والسياق التاريخي، الذي أسهم في بروز وصناعة جمهورية سلا وقراصنتها في مرحلة، لم تكُن فيها معدّات الملاحة قد تطوّرت بعد.