محرج لي يا زميلي أن أقف هنا الآن. إنه إحراج الكيف. وهو إحراج اللماذا. محرِج أولاً، أن تسأل ذاتك، كيف لكلمة أن تقاربَ دماً. كيف لسطر أن يحكيَ حياة. كيف لكل لغاتِ الأرض وخطبِ الناس، أن ترويَ شهادة. تُحرجني الصورة. أن أكون فيها، فيما هي لمن ليس هنا. تتهمني بالجبن، وبعد الجبن بالاستغلال، بالاستثمار. بشيء من تشخيص غربان الموت وتمثيل سماسرة الجثامين. كيف أنا ونحن هنا، وحمزة هناك؟ كيف لي أن أتحدث عنه، في لحظات، هو، ومعه حليم ومحمد، كما قبله جبران وسمير وجرح مي وكثيرون، من صار بلحظة كل الملء. أي شيء أضيف إليه؟ هو من صار ضيف الهواء والسماء. عاجز أنا، محرج مربك... أستغفرك حمزة، أستغفر دمك أنني لا أملك إلا كلمة.

ثم إنني ثانياً أمام إحراج اللماذا. حين أسألك أو أسأل نفسي: لماذا قُتلت يا زميلي؟ لماذا استشهدت؟ لماذا استُرخِصت ــ أو استرخصتَ أنت ـــ دمَك وحياتك وأيامَك وضوءَ العينين ونورَ الصباح وغسق العشيات؟ لأجل ماذا؟ لأجل من؟ كيف أقبل تدبيجاً من نوع أنك سقطت من أجل مذبح معلولا، فيما من يُفترض أن يذهبوا إليها، ذاهبون في غير اتجاه محتل؟
كيف أصدق تبريراً من نوع أنك قُتلت من أجل حقي في الحقيقة، وأمس بالذات، كنتُ، ومعي كلُ صاحبِ كرامة، في قفص اتهام أجنبي مع كرمى. وأمس كدتُ، ومعي كلُ صاحب قضية، أن أصيرَ «فرارياً» من خزمتشية الوالي مع ابراهيم... لمجرد أنهما قالا حقيقة كالتي توهمتُ أنك كريتها بدمك يا زميلي. وأمس كان البعضُ من أهلي وأهلك، يشمتون بزميليّ، ويشتمون، ويسنّون خناجرَ الغدر للحظة غدر لم تأتِ، ولن...
كيف أقبل يا حمزة، أنك قُتلت من أجل قدسية الناس في الخبر والاستعلام، وأنا قبل موتك وبعدَه، قبل دمِك وبعده، أخاف أن أقول إنّ هذا المسؤول مزوِّر، وذاك المسؤول سارق، وذلك قاتل متسلسل، وأنا أسكت عن كل الفاسدين الذين أعرفهم وتعرف ونعرف، لمجرد أنهم نافذون أو برؤوس فوق النجوم؟ أي حقيقة افتديتَها أنت بدمك يا زميلي، فيما كل حقائقنا مربوطة بربطة عنق، أو مقيدة بساعة معصم. تراها مصادفة أن معظم «إكرامياتنا» لا تصلح إلا لعقل الأعناق والمعاصم، نحن من ندّعي أننا أصحاب العقول؟!
لأجل مَن ولأجل ماذا رحلتَ يا زميلي؟ من أجل أولئك الراقصين فوق صدورنا وحقوقنا وقبورنا؟ أم من أجل حديثي النعمة والثروة أولئك، يدورون علينا اليوم بدنانيرهم، كي لا تُكتب كلمة عن آخر فضائحهم. ولن تكتب؟ أم من أجل طبقة سياسية كاملة، تعتبر الكتابة حِرفة يدوية من العصر الحجري، والقراءة هواية بدائية من القرون الوسطى؟
أتصور يا حمزة الآن تلك التي انتظرت قصيدتك يوم عيدها. فرحلت قبل العيد بأيام، كمن يسابق الميلاد بولادة ثانية. أرى عينيها الآن في ذلك الزبد الأرجواني، قطّرته من غصة وحرقة. أسمع انخطاف حسها وهي تسألك بصمت: هل يستحقون؟ هل نستحق؟ هل صدقت أننا نهتم لحقيقة أو لكذب؟ أننا نعبأ بتضليل أو بتصحيح؟ بحرية أو بكرامة؟ بموت يخلَد أو بحياة موات؟
بلى يا زميلي، ثمة معنى لموتك. أن يظل يفضحنا. ألا ينفك يقضّ مضاجعنا. أن يدأب يضطهد خوفنا وضعفنا وفسادنا وسطحيتنا وتفاهتنا. أن تظل صورتك تلاحقنا عندما نخضع لرقابة الآخر، مثل اغتصاب، وأن يظل دمُك يضج في ضميرنا، حين نُخضع ضميرَنا لرقابة الذات، مثل العهر. ثمة معنى لك يا زميلي، أن تظل المرآة وأن نظل الهربَ من وجوهنا في وجهك.
بلى يا زميلي، ثمة معنى لشهادتك. أنه حين يسألني طفلي ذات صباح، لماذا نسهر ونقرأ ونكتب وهو جائع، فيما حكامنا ساهرون على طفيلياتهم، لا يقرأون إلا حسابات أرصدتهم ولا يكتبون غير أرقامها، وهم متخمون... لك أن أجيبه: أنني أفعل لأن هناك حمزة، ولأن هناك مثله حزمة لا تعد ولا تكسر، ولأن في حبري وماء العينين نقطة من دمهم، وفي رجائي أن أستحق يوماً لحظة من كرامتهم.
أستغفرك حمزة، أنني حكيت عنك وعن موتك لحظة، أنت من حكت بلحظة سِفر حياة وخلود.

* كلمة ألقيت في الاحتفال الذي نظّمه لقاء «لمّ الشمل الإعلامي» تحية إلى الإعلامي الشهيد حمزة الحاج حسن في 14 أيار (مايو) في «مطعم الساحة».