مع اجتياح الباطون بيروت وقضائه على المساحات الخضراء، والمتغيرات المتسارعة في العمران والشروخ التي يحدثها في العلاقات الإنسانية والثقافية، فتح «مركز التراث اللبناني» التابع لـ «الجامعة اللبنانية الأميركية» كوة في هذا الجدار عبر ندوة «زيارة البيت اللبناني ـ من فتحة الدرفة إلى فسحة الشرفة». خلال رحلته في أيار (مايو)، حطّ المركز في عمشيت ودوما للحديث عن تطور البيت اللبناني. حضرت البلدتان صوراً وتوثيقاً، بينما تولى الشرح كل من الاختصاصي في ترميم البيوت التراثية أنطوان لحود (عمشيت) ورئيس قسم الهندسة في «جامعة الروح القدس» أنطوان فشفش.
تضم عمشيت اليوم 45 بيتاً مسجلاً على لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية والأثرية في لبنان. ظلت بيوتها حتى 1400 من طين وتراب، وأخشابها من شجر التوت والزنزلخت. كانت الطبيعة متداخلة مع العمران. أهل هذه البيوت اعتاشوا على التوت، ومنه بدأت تزدهر صناعات الحرير إذ برز الدور العملي للمرأة في الإنتاج وصنع الأزياء من الحرير. هذا المنزل القروي وفق ما أشار لحود كان يتمتع بسماكة في الجدران تصل الى متر بغية تأمين مناخ ملائم صيفاً وشتاء، فيما أسهمت الفتحات والنوافذ في أعلى المنزل في تحقيق التهوئة. وكان يمتاز بصغر غرفه. ومتى أراد المهتمون تقدير عمر المنزل القروي، كانوا يلجأون الى شجرة الحرير المحيطة به.
خلال حديثه عن الهندسة اللبنانية، عرّج لحود على الاتهامات التي تُوجَّه اليها دوماً بأنّها تستعين بمواد وأشكال مأخوذة من بلدان مختلفة ولا تبتكر هويتها الخاصة. لم ينفِ لحود هذا التأثر بالهندسة العالمية والمجاورة، لكنّه اعتبر أن خلطة الهويات هي التي صنعت الطابع اللبناني الخاص.


منع الاحتلال العثماني بناء
الأروقة الخارجية «البلكون»

البيت القروي لم يبق كما هو. ابتداء من 1860، بدأ يظهر البهو الداخلي وطبقة ثانية ذات درج خارجي لبلوغها. دخل الإيوان ومعه المندلون المزدوج والأحواض الخارجية للزرع الى هذا المنزل. كما امتاز بعلو مساحة القناطر بما يسمح بعبور الأحصنة والجمال. كذلك، بدأت ظاهرة السفر والتجارة ودخول الإرساليات الأجنبية الى لبنان، ما أسهم في التزاوج والتلاقح الحضاري وأثّر طبعاً على الهندسة. هكذا، دخلت الألوان والأشكال الأجنبية الطابع والمفروشات «الجريئة».
لاحقاً، ظهرت الأروقة الخارجية أو ما يعرف بالبلكون الذي كان غائباً بسبب المحتل العثماني. عندما غادر لبنان، بدأ عصر مختلف من الانفتاح والتحرر وأولى بشائره هذه الأروقة وما لها من نتائج ايجابية على النسيج الاجتماعي. من خلالها، خرج المنزل من اطاره الضيق الى الفسحة العامة وبدأت العلاقة مع الآخر، مع الجيران. وهذه الأروقة كانت امتداداً للصالون وفسحة نحو الخارج والطبيعة. كذلك ازدانت بالقناطر التي كان عددها مفرداً للدلالة على العائلة النواتية، وفي المنتصف تصميم خاص ومميز يرمز الى رب البيت وأهمية مكانته.
الى جانب الأروقة في الطابق العلوي، كانت رسوم ونقوش تظهر مترافقة مع ألوانها أمام المنازل في عمشيت مشغولة على طريقة الفسيفساء المجمعة من حصى شاطئ البحر.
أما دوما، فهي البلدة الجبلية الوحيدة التي حافظت على بيوتها القرميدية والتراثية طيلة هذه القرون. هنا، تستلقي البيوت منبسطة في حضن الجبل على شكل عقرب. يشرح أنطوان فشفش جغرافية وسوسيولوجية هذه البلدة منذ 1775. أغلب سكانها ينتمون الى الروم الأرثوذكس، وكانوا يمتهنون الأعمال الزارعية. عندما وقع الزلزال في بعلبك القريبة من دوما، نزح عدد كبير من الروم الكاثوليك اليها وكانوا يخافون المجاهرة بمذهبهم كما يقول فشفش لأنهم «أقلية». استوطنوا في حارتها الفوقا وكان أغلبهم يعمل في الصناعة، وهذا ما خلق تكاملاً بين السكان الأصليين والوافدين. الهندسة لا تختلف كثيراً عن عمشيت من البيت القروي الى الإيوان.
دوما البلدة الواقعة بين بعلبك وطرابلس، شكّلت محور جذب لكليهما خصوصاً لجهة تبادل البضائع. ومن هنا ولدت فكرة إنشاء سوق يمتد على مساحة 1500 متر مربع ما زال موجوداً الى اليوم. ازدهرت التجارة ومعها بدأت حياة الترف وانعكست على الهندسة. هذا ما ظهر في الديكورات والألوان والمفروشات المستخدمة وتراوحت الطبقات الاجتماعية بين البرجوازية الغنية والمتوسطة. ظهر ذلك في طريقة بناء البيوت، فاختلفت المواد المستخدمة من حجارة وأخشاب ورسوم على الجدران والأسقف. كانت بيروت مصدر التأثير الأكبر في بناء البيوت هناك. بعد توسع المرفأ في دوما ودخول الإرساليات الأجنبية، خرجت هذه البلدة عام 1881 من أسوارها الضيقة التي لم تسمح ببناء واسع للبيوت. بدأت التعديلات العقارية وبيع الأراضي، وخرج أصحابها من الأسوار وبرز البيت ذو الأقواس الثلاثة الذي كان يتمتع بفسحة سماوية في المنتصف لتخزين المياه. مع الوقت، أصبحت هذه الفسحة عبئاً وعائقاً لأصحاب البيوت بسبب هطول الأمطار فوق رؤوسهم، فكان البديل السحري: القرميد. هذا القرميد أتى بالمصادفة عبر البواخر التي كانت تأتي من مرسيليا محمّلةً بالبضائع وكانت تضع حجارة القرميد داخلها. يؤكد فشفش أنّها بنيت بأحدث تقنيات العمارة التي اقتُبست مما كان يعرف بـ «البيت البيروتي» وأصبح لاحقاً «البيت اللبناني».
بين1940 و1997، انقلب المشهد في دوما. تطورت وسائل النقل وشّقت طرقات جديدة. فقدت دوما موقعها الحيوي والتجاري وبدأ النزوح نحو بيروت بعد إقفال أكثر من 75 % من دكاكينها وحالة الركود الاقتصادي التي عاشتها. ظلّ الوضع على ما هو عليه حتى 1998 مع ولادة «مهرجانات دوما» بغية إعادة إحياء السوق التراثي. نجحت هذه المهرجانات وأنشئت المقاهي وبدأت تجذب زواراً من خارج البلدة. وفي عام 2011 دشنت «سينما دوما» التي كانت رائدة بين 1915 و1958 قبل أن يولد التلفزيون في لبنان، فشكلت دهشة لكثيرين في اكتشافهم للصورة المحركة.




المندلون

عندما خرج البيت القروي من هيئته المتواضعة في كل من عمشيت ودوما، دخلت عناصر أخرى الى هذا البيت ومن ضمنها المندلون . وللمندلون حكاية، فهو المشتق في الأصل من كلمة "مندولين" وتعني الآلة الموسيقية التي كان يعزف عليها العاشق لحبيبته تحت منزلها. وعندما ترمي له المحرمة الورقية، فذلك يعني أنّها موافقة على هذه العلاقة. إن دخول المندلون الى العمارة اللبنانية ما هو الا تأثر بالهندسة الإيطالية (توسكانا). فهي المرة الأولى التي تدخل فيها الرومانسية بشكل قوي على الهندسة على شاكلة نافذتين طوليتين للدلالة على هذا العشق والوله بين الحبيبين.