في عرض «ظهور برسفون في بيروت»، يستدعي حسين نخال برسفون، آلهة الموتى والربيع في الحضارة الإغريقية إلى بيروت لعلّها تجد طريقة لتخصيب أرض المدينة ربيعاً بعدما أضحت خصبة للعنف. يعتبر نخال أنّه يصعب تبنّي وجهة نظر في السياق السياسي للمنطقة كي ينطلق منها لبناء عرض. لذلك اختار عنصراً خارجياً من زمان ومكان بعيدين يكون مرشداً لأهل المدينة في بحثهم عن السلام. انطلقت الفكرة مع مشاهد العنف المتلازمة مع التفجيرات وتمزيق الجثث وتزايد الجرائم الوحشية في لبنان.
مشاهد دفعت نخال إلى طرح أسئلة حول تعوُّدنا على العنف الذي أصبح موروثاً ثقافياً نحمله في أجسادنا وفي طريقة تفكيرنا من دون انتباه.
تعكس التركيبة الإخراجية لعرض نخال، التركيبة العنيفة والمقطعة الأوصال نفسها المحيطة بنا. نشعر أنه يقفز بنا من مشهدية إلى أخرى من دون تفسير واضح. يجد المتفرّج نفسه أحياناً داخل دوامة من الأسئلة حول ما يدور في فضاء اللعب. قد يحمل هذا الخيار مخاطرة لغياب قدرة المتفرّج على تفسير المَشاهد أحياناً، وبالتالي فقدان التواصل مع العمل في لحظات كثيرة. في المقابل، قد تبعث دلالات حركة الجسد وعناصر السينوغرافيا المستخدمة مدلولات خاصة إلى كل متفرّج تحمله إلى قراءة ذاتية.
يبدأ العرض بوصول برسفون الى الأرض. قد يكون هذا المشهد من الأقوى أدائياً إذ أبدعت الممثلة الوحيدة ضنا مخايل (بدور برسفون) في تفكيك جسدها إلى كائنات متحرّكة خلقت حواراً حركياً في ما بينها. حمل إلينا هذا المشهد مخزون ذكريات حول تقطيع أوصال الجثث وانقلاب الكائنات على نفسها في عملية تدمير ذاتي، حيث انفصلت يداها عن رأسها وجسدها، ليصبح كل جزء كائناً مستقلاً. المشهدية الكاملة التي قامت بها أطراف جسد مخايل، كانت كافية لتعيدنا إلى صور الحرب والتفكك والعنف بشكل قوي حتى جاء عنصر خارج جسدها، ليؤكد أنّ الأشلاء والموت أسهما في عملية خلق وضعيات جسدية جديدة وخلق كائنات تتأرجح بين عالمي الإنسان والحيوان. هي كائنات من صنع الحرب والموت رسمها نخال على جسد مخايل الذي نبض بأشكال غريبة ولّدت متعة بصرية. قد لا يستطع الجمهور فهم هذه اللقطات بمنطق عقلاني، لكنها احتوت لحظات قوية في مخزونها البصري، أوصلت معاني غريزية مختلفة فيما خلقت تواصلاً بين الممثلة والمتفرج. من جهة أخرى، قد يفقد هذا الأخير التواصل مع فضاء اللعب عندما لا تتوافق المدلولات مع ما يثير الذاكرة. ذلك أن الخط الدراماتورجي الذي رسمه نخال غير واضح تماماً للمتفرّج ولعل هنا قد تكمن ثغرة العرض.

أبدعت ضنا مخايل في تفكيك
جسدها إلى كائنات متحرّكة

يقول نخال إنّ برسفون جاءت إلى مدينتنا، بعدما التقت بجثث أهل بيروت في العالم السفلي، وقامت بتمثيل ما أخبرتها إياه الجثث حول تفاصيل لحظات موتها والعنف الذي تعرّضت له في إطار مسرحية قدّمتها لنا برسفون داخل مسرحية نخّال. بعد أن تنتهي برسفون من تمثيل هذه المسرحية تعود إلى شخصيتها في الجزء الثاني من العرض كإلهة استشعرت كل العنف الذي عاشه سكان بيروت، لتقدم لنا من موروثنا الديني المسيحي والإسلامي بعضاً مما قد يحمي أهل المدينة من العنف. تبدأ بالطقوس، فتقوم برياضة روحية عبارة عن حركة متكررة تؤهّلها لكتابة الطلسم وهو مفهوم إسلامي ما ورائي هدفه الحماية والتحصين. تقيم أيضاً دعاء الوفق الذي يلازم كتابة الطلاسم، فيما تقوم بعملية ترميد الجمهور (المفهوم المسيحي). وفي هذا الجزء، تقتحم برسفون فضاء الجمهور لتغمر البعض وتلامس بعضهم الآخر بحبّ، كأننا بنخال قد استدعى برسفون من الحضارة البعيدة لتبعث إلينا ما نفتقده اليوم في بلادنا، وهو ببساطة الحب والتواصل.
ها هي برسفون تأتي من فضاءٍ آخر لتخبرنا قصص جثثنا وموتنا ودمارنا وعنفنا. تحمل إلينا بذور الحب لنزرعها في الأرض ربيعاً، قبل أن تتحوّل طاقةً كونية تفجّرت على شكل نجوم في الفضاء الواسع. طرح نخال يحمل كثيراً من الروحانية واستدعاء الفرد للعودة إلى الذات ورفض العنف كما يظهر في خطاب الكورس (مفهوم التراجيديا الإغريقية) الذي ابتدعه هاني سوّاح على شكل توليفة ذكيّة بين الأذان واستدعاء الناس إلى الثورة والعصيان. العرض هو محاولة لخلق ميثولوجيا لطالما احتاجتها المدينة في أوقات التحول والمساءلة والموت، استمدت قوامها من الميثولوجيا وبعض ملامح التراجيديا الإغريقية، لكن المفارقة الكبيرة تكمن في أن عرض نخال ينتهي بدعوة روحانية لا بمأساة وجودية.

* «ظهور برسفون في بيروت»: 8:30 مساءً حتى 15 حزيران (يونيو) _ «بيت ورق» (رأس النبع). للاستعلام: 03/763823




سيرة

تميّزت أعمال حسين نخال بالتفاعل والتواصل بين المؤدي والجمهور. السينوغرافيا الغنية بعناصر بصرية وسمعية متعددة شكلت أساساً لأعماله، إذ يعتمد الأشكال والألوان والفيديو والرسومات والصور كوسيلة تعبير عن الفضاء المسرحي. نخال من مؤسسي جمعية «ورق» التي تكونت من فنانين لبنانين وعرب وتعنى بخلق نتاجات واستضافة أعمال وورش عمل متعددة الوسائط. تسعى «ورق» الى تطوير وبلورة مواد تفاعلية مستقاة من الحياة الاجتماعية والسياسية في لبنان والعالم العربي. أسست المجموعة «بيت ورق» في منطقة رأس النبع في بيروت. وفي رصيد الجمعية عدد من العروض التفاعلية المتعددة الوسائط كـ «يا ورد مين يشتريك»، و«مونوبولي بيروت» و «هلّي غلّي بيروت». والأعضاء المؤسسون لجمعية «ورق» هم دافيد حبشي، جوان باز، حسين نخّال وآشلي شقير.