في فيلمه الجديد، يخوض أحد أهم رواد السينما المستقلة في أميركا منذ الثمانينيات جيم جارموش (1953) مجالاً لا يقلّ تجريبية عن أعماله السابقة. يدخل المخرج الأميركي هذه المرة عالم مصاصي الدماء، مهتماً بالمفاهيم المرتبطة بهذه الشخصية الخيالية. هكذا، يستكشف الخلود والأبدية والملل اللانهائي، إلى جانب رمزية الحقبات الغابرة التي تنتمي إليها هذه الشخصيات المسافرة عبر الزمن التي تبحث عبثاً عن جمالية باتت مفقودة في هذا العصر.
يتناول «وحدهم العشاق بقوا أحياء» قصة حب مستمرة منذ عصور بين إيف (تيلدا سوينتن) وآدم (توم هيدلستن). تزوّج مصاصا الدماء مرات عدّة خلال عصور مختلفة، لكن كل منهما يعيش اليوم في مدينة مختلفة ويلتقيان كل فترة. تشارك اللبنانية ياسمين حمدان في الفيلم عبر مشهد تؤدي فيه مقاطع من أغنيات عربية مختلفة على إيقاع موسيقى إلكترونية في حانة في مدينة طنجة المتخيلة التي تعيش فيها إيف، فيستمع إليها آدم ويعجب بغنائها.
آدم الموسيقي الذي يعيش بين أنقاض مدينة ديترويت المهجورة كما يصوّرها الفيلم، كانت له علاقات مع كبار الموسيقيين الذين عرفهم كفرانز شوبرت الذي أهداه جزءاً من سيمفونيته «أداجيو». بطريقته الساخرة، يسرد جارموش روايته الخاصة عن تاريخ الفن والأدب عبر شخصياته. في الشريط، لا يتوانى مصاص الدماء مارلو المستوحى من الكاتب الإنكليزي كريستوفر مارلو (1564_1593) صديق إيف، عن نسب أعمال شكسبير لنفسه، لكنه نادم لأنه كتب «هاملت» قبل أن يتعرف إلى آدم. وجارموش نفسه الذي يتبنى نظرية التشكيك في أصالة شكسبير في الفيلم، أكّد إيمانه بهذه النظرية في مقابلة أجريت معه. من ناحية أخرى، تصبح الحياة الأبدية لآدم مضجرة وكئيبة، ودافعاً للتفكير في الانتحار. بل إنّ هذا العصر بالذات هو أسوأ الأزمنة التي عاش فيها وأكثرها انحطاطاً؛ يحكمه التلوث البيئي والسمعي والبصري، حتى أن الدم البشري أضحى ملوثاً. وسنرى لاحقاً أن ما يتسبب في مقتل مارلو هي جرعة من الدم الفاسد.

تتجسّد جمالية الجماد الأشبه
بالموت عبر مشاهد الحب بين آدم وإيف
يحصل آدم على غذائه من أحد الأطباء في مستشفى قريب، يعطيه أكياساً مليئة بالدم مقابل المال. هكذا، نرى أنّ الطريقة الاعتيادية لتأمين الغذاء المتمثلة في مصّ دماء الآخرين، لم تعد مقبولة في هذا العصر. وحدها آفا (ميا واسيكوسكا) أخت إيف، تفضل الطريقة القديمة الهمجية، فتشرب دم إيان صديق آدم. وحين يرى هذا الأخير جثة صديقه المتيبسة في الصباح التالي إلى جانب آفا المنتشية بدمه، يصرخ «لقد شربت إيان»! الطرافة في هذا المصطلح، تتسلّل إلى مواقف كثيرة في الفيلم كألواح البوظة المصنوعة من الدم التي تعبّر عن رؤية جارموش الساخرة. بتصويره حياة مصاصي الدماء بهذه الواقعية، يحطّم المخرج الأميركي الصورة النمطية لمصّاص الدماء، وينزع عنه جانب الخيال الأسطوري المرتبط به، فقلب الأدوار ليصبح البشر هم «الزومبي: الأموات الأحياء» كما يصفهم آدم. كأن جارموش يتخيّل الإنسان خارج فكرة الوقت في الحياة البشرية. كيف قد يعيش الإنسان حياته إذا لم تكن فانية؟ هل سيملك القدرة نفسها على الحب أو على التذكر أو النسيان؟ لا شيء يتغير فعلاً بالنسبة إلى جارموش، باستثناء تفاقم الضجر. نرى أن سنوات وقروناً تمرّ، والشخصيات على حالها. هكذا، لا تتغيّر آفا المشاكسة ومفتعلة المشاكل، كذلك يبقى آدم على كآبته بينما تمثّل إيف الطرف الأكثر إيجابية في العلاقة. تحثه على الخروج من ذاته والانغماس في الحياة. ربّما، هذا هو الأمر ذاته للإنسان الفاني، باستثناء أن حياته تنتهي قبل أن يدرك عجزه عن التغيير. تبدو حياة مصاصي الدماء كما يعرضها جارموش ببرودتها وبأكياس الدم التي يشربون منها في أكواب صغيرة ثم ينتشون كما المخدرات، كأنها ترميز للحياة المعلّبة التي نعيشها.
يلمح آدم وإيف شاباً وصبية يتعانقان بشغف، فيقرران الهجوم عليهما والشرب من دمهما، كأنهما يرغبان بشرب الرغبة اليافعة التي تسري في عروق العاشقين. إيقاع الفيلم البطيء، بحواراته الوفيرة والعبثية، والصمت الذي يتخللها ومناخاته القوطية، يجسّد ثقل الوقت الذي يمر في جو مليء بـ«الميلونكوليا» والحنين إلى حيوات ماضية أو إلى رمزية الجنة المفقودة. لطالما شكّل عامل الوقت وكيفية تجسيده على الشاشة، أحد هواجس جارموش، ليبدو إيقاع الزمن على الشاشة أقرب بتكوينه إلى الوقت في الحياة الفعلية. أما شخصيات أفلامه، هي مسافرة وهائمة في بحث مستمر عن شيء غامض، وحجة البحث ما هي إلا ذريعة للانطلاق. هذه إحدى الثيمات الظاهرة عند جارموش منذ شريطه الأول «العطلة الدائمة» (1980) التي تتكرر في عدد من أفلامه كما في «قطار الغموض» (1989) و«ليلة على الأرض» (1991)، أو حتى في أعماله الأخيرة كـ«أزهار محطمة» (2005). وبالعودة إلى «العشاق وحدهم بقوا أحياء»، يجسّد جارموش جمالية الجماد الأشبه بالموت في لغته السينمائية، عبر مشاهد علاقة الحب بين آدم وإيف. ينسج لوحات بصرية تذكر قسوتها وبرودتها في تصوير الجسد بالرسام النمساوي إيغون شيلي. خلال مقابلة أجريت مع المغني توم وايتس الذي عمل مع جارموش في فيلميه «ملاحق من القانون» (1986) و «قهوة وسجائر» (2003)، يقول وايتس إنّ «السرّ لفهم جارموش يكمن في أن شعره شاب واكتسى الأبيض ولما يزل في الـ 15. ونتيجة لذلك أحس كأنه مهاجر في حياة المراهقة، وهو منذ ذلك الوقت مهاجر غريب في هذا العالم، مفتون بما يراه، وكل أفلامه تتحدث عن ذلك».



Only Lovers Left Alive: بدءاً من 22 أيار (مايو) ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (01/204080)
على موقعنا: ««الرجل العنكبوت»: هل بات الأشهر بين أقرانه؟»