في بداية فيلمي «رسالة من زمن المنفى» (1990) و«إليك أينما تكون» (2001)، تحدّث برهان علوية عن ضجيج في رأسه، عمره 15 عاماً، من عمر الحرب. هذا الضجيج، الذي تكلّم عنه، شاهدناه في أفلامه، ولم نسمعه فقط. منذ «بيروت اللّقاء» الذي صوّره عام 1981، وصولاً إلى «خلص» (2006)، لم يخرج هذا الضجيج من رأسه ولا من أعماله. ولم تخرج الحرب من عدسته ولا من كلماته.بعث إلينا بثلاث رسائل، شكّلت ثلاثية أعمال المخرج اللبناني الذي درس السينما في بلجيكا، واتجه إلى ميدان سينما المؤلف. تلك الرسائل الثلاث، تشكّل سيرةً للبنان منذ اندلاع حربه الأهلية وصولاً إلى إعلان وقف إطلاق النار والدخول في مرحلة السّلم الزائف: «رسالة من زمن الحرب» (1984)، «رسالة من زمن المنفى» و«إليك أينما تكون».
لا تستطيع أن تنسى بسهولة الشخصيات التي تخرج من شاشة برهان علوية، من الوجوه الحائرة والتائهة، التي رصدها في المنفى الأوروبي، هاربةً من حرب لبنان، إلى الوجوه التي صوّرها في بيروت، بعد عشر سنوات على انتهاء الحرب في «إليك أينما تكون». المرأة التي لا تستطيع أن تنام وفي رأسها صورة إعدام شبان أمام منزلها. الأمّ التي تجلس تحت صورة ولدها المفقود، ولا يزال مصيرها ومصيره معلّقاً، كما كل شيء، والمقاتل القنّاص السابق الذي لا يظهر إلا في الليل.
هذا العمل الفريد الذي صوّر فيه شخصيات ترسم بورتريهاً لمدينة تعيش بين عالمين، العالم السفلي، أي الحرب ووجوهها وضحاياها، والعالم الآخر، حيث المدينة نفسها تحاول أن تدوس على الحرب وتمضي قدماً إلى عالم الأموال وإعادة الإعمار و«الازدهار»، غير آبهة بإرثها الدموي الثقيل.
خيط رفيع في أفلامه بين الوثائقي والروائي


ينطلق «إليك أينما تكون» من الضوء، من بيروت بلسان أنسي الحاج وأحمد بيضون، ويتجه إلى الظلام، إلى وجه مخفي من العاصمة. هناك خيط رفيع في أفلام برهان بين الوثائقي والروائي. وهو لا يحبّذ أن يميّز بينهما، لكننا نستطيع على الأقل تمييز ثلاثة أعمال خارج الثلاثية الشهيرة.
«كفر قاسم» (1974) في بداية السبعينيات، الروائي الذي يوثّق مجازر الاحتلال الإسرائيلي في قرية كفر قاسم الفلسطينية. «بيروت اللقاء» (1982) المستحيل في زمن الحرب بين حبيبين، معتمداً كعادته على الرسائل بينهما. يروي برهان سيرة بلد وعاصمة تمزقّهما الحرب منذ سنوات. لا ينسى أن يعرّج على المشكلة الطبقية الأساسية في اشتعال الحرب، وقد توارت خلف المعارك الطبقيّة. آخر أعماله «خلص» (2006) كأنّ برهان قال «كفى»، أتى كتصفية حساب المخرج مع الحرب، غاضباً ومنتقماً من بعض وجوهها: الحبيبة السابقة، المثقف والمنظّر اليساري الذي أشبع المقاتلين بالشعارات، وانقلب عليها في زمن السلم والبحبوحة والسلطة.
لعلّ المشهد الأبرز والأكثر سريالية في مسيرة برهان السينمائية، هو إقامة الصديقين في «خلص» وليمةً كبيرةً لعشرات القطط على أنغام الكمان، قبل أن يشرعا في رحلة الانتقام من الماضي. في وثيقة نادرة أيضاً لبرهان علوية، بعنوان «لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء» (1978)، صوّر المهندس المعماري الشهير، حسن فتحي، في نهاية السبعينيات في مصر. هنا أيضاً إشارة إلى انحياز برهان إلى الإنسان، مثل بطله حسن فتحي.
«نادي لكل الناس» كان قد أصدر أعمال برهان وبعض المخرجين من هذا الخط، تكريماً لسينما تروي وتصوّر واقع البلد، وتنحاز للقضايا المحقّة، وفي انتظار أن تخرج أعمال أخرى، لم يتسنَّ لجمهور واسع أو للأجيال الجديدة مشاهدتها.
مع رحيل برهان علوية، تتسع الهوة أكثر بين السينما والناس، بين السينما وتاريخ لبنان الحقيقي وقضاياه الاجتماعية والإنسانية. هذه هي السينما التي رسم برهان طريقها مع أبناء جيله أمثال جوسلين صعب، ورندا الشهال، ومارون بغدادي وجان شمعون.