يحظى الملك آرثر بشعبيّة مستحقَّة بين صنّاع الأفلام والمسلسلات وحتى مطوّري ألعاب الڤيديو حتى يومنا هذا. لعلّ ذلك يعود إلى أنّه يشكّل، في الأساس، مادةً خاماً للتخيّلات، وأنّ إرث آرثر وفرسان الطاولة المستديرة مرتكزٌ إلى أساطير أكثر منها إلى حقيقة تاريخية. ألهمت أسطورة آرثر كثيرين قدّموها بطرقٍ مختلفة على الشاشة الكبيرة. اليوم، وصلت هذه الأسطورة إلى المخرج الأميركي ديڤيد لآوري. الأخير حوّل الرواية الرومانسية التي اشتهرت في الثقافة الأنغلوساكسونية «سير غواين والفارس الأخضر» (المؤلف مجهول)، إلى قصّة تتفرّع منها قصص عدة ومغامرة لا تنتهي. «الفارس الأخضر» (2021) دراسة شخصية بطيئة، مع أفضل المؤثرات المرئية والسمعيّة على الإطلاق. قدم لآوري سرداً ثريّاً وموضوعيّاً منظماً، لقصة السير غواين، الذي لعب دوره ديڤ باتيل بأداءٍ بسيطٍ وقويّ للغاية، مع طاقم تمثيل مثيرٍ للإعجاب.
يروي فيلم لآوري قصة السير غواين، ابن شقيق الملك آرثر. في إحدى الليالي في قلعة كاميلوت، توقّف الاحتفال بعيد الميلاد بسبب ظهور وحشٍ غريب غامض: إنّه الفارس الأخضر الذي دعا الفرسان لمبارزته، بشرط أن يردّ الفارس الأخضر الضربة بالمثل في اليوم نفسه بعد عام. من بين هؤلاء الذين يجلسون إلى الطاولة المستديرة، يقبل غواين التحدّي. يقفز ويقطع بعنفٍ رأس الفارس الأخضر. يرفع الأخير رأسه عن الأرض مذكّراً غواين بأنّهما سيلتقيان مرة أخرى بعد عام. في هذا العالم، على غواين الشاب أن يثبت نفسه كي يستحقّ لقب السير ويمتلك الفضائل التي تأتي معه. غواين ليس فارساً حقيقياً، لم يقم أبداً بأعمال بطولية، وما فعله مع الفارس الأخضر كان مجرّد طيش الشباب، إلّا أنّ ذلك يولّد فيه إرادةً لإثبات نفسه، في حين أنه في الواقع ليس متأكداً مما إذا كان يريد ذلك حقاً.
دراسة شخصية بطيئة، مع أفضل المؤثرات المرئية والسمعيّة على الإطلاق


ديڤ باتيل، ممثل بريطاني من والدين هنديّين، وُلد في لندن، يعيد في الفيلم الحياة إلى غواين الذي يطارد الملذّات، ولكنه في الوقت نفسه ينجذب إلى المجد ويريد أن يلبّي توقعات والدته والملك، لكنّ جهوده تكون أحياناً متواضعة. لا يعرف كيف يتصرّف في مواقفَ معيّنة. شابٌ ذو عيوبٍ ومخاوف ورغبات. اختيار ديڤيد لآوري هذا الممثل لتقديم شخصية بيضاء، يضفي ربما طابعاً معاصراً على الرواية يُبرز ربما التعددية الثقافية في المجتمع البريطاني، من دون أن يغيب عنّا ماضي الامبراطورية الاستعماري وسلوكياتها في الهند وغيرها من الدول التي حكمتها.
«الفارس الأخضر» خيال مظلم مثير للاهتمام، يكرّم القصة الأساسية ويعيد تفسيرها في الوقت عينه. يقدم الشريط نفسه للتحليل بطرق عدة. فيلم متعدد الطبقات، لكنّه في الوقت نفسه ليس من الأعمال الفنية التي تتطلّب جهداً كبيراً من المشاهد. يؤدّي التقسيم الطبقي والرمزية والتراكمات السردية مع خلط الرموز المسيحية والوثنية إلى خلق عالم متناقض: السحرة والمشعوذون والثعالب المسحورة مع المعتقدات الدينية والأعياد المسيحية. هذه الازدواجية تميّز أيضاً الحوارات، إذ تتحدث الشخصيات مرةً بلهجة قديمة، وأحياناً أخرى بلهجةٍ حديثة، وبالتالي تضفي الحوارات مع الدراما النفسية العميقة القاتمة، بعض الفكاهة. بالنظر إلى أفلام المخرج السابقة، ليس مستغرباً أن يخلق مناخاً غامضاً وغامراً لقصته الغنية. استخدام الألوان (الرمادي البارد، الأخضر والبني) في المشاهد الطبيعية، والتسلسل السوريالي للرؤى والمشاهد الطويلة، تعكس صراعات غواين الجسدية والعقلية. بالإضافة إلى الشكل المرئي، فإن الموسيقى الكنسية تولّد مزاجاً خاصاً مع الصورة والصوت.
ينقسم الفيلم إلى فصول، وتحديداً إلى حلقات قصصيّة، لا يقتصر دورها على الدفع بالقصّة إلى الأمام فحسب، بل إنّها أيضاً تعزّز المزاج العام للتطور الدرامي، بينما يدعم الواقع المنمّق الخيال. على عكس أفلام أساطير الملك آرثر السابقة، فإنّ «الفارس الأخضر» رحلة بطيئة الخطى، تأمّلية، صوفية، يكبر فيها البطل مرةً واحدةً وإلى الأبد، ليواجه مصيره، سواءً كان موتاً مجيداً أو حياةً مُخزية. يختلف الفيلم في النهاية عن القصيدة الأساسية: أعاد لآوري صياغة الرسالة الأخلاقية المتأصلة فيها، ليقدم استنتاجاً يعزّز التفسير والتفكير. هو لا يفسد القيم التي تكتنفها القصيدة: الشجاعة، والفروسية، والقوة، والمجد. لكنه يَسأل: هل يستحق هذا كل ما فَعَله غواين؟ وأين الحدّ الذي يجب التوقف عنده؟

The Green Knight
في الصالات اللبنانية