في مجموعته الثالثة «التتمّات.. وتفسير الربع الأوّل من السيرة النّاقصة للأخير» (دار الغاوون)، يفاجئنا الشاعر السوري محمد دريوس (1973) بدءاً من عنوان الكتاب الذي يعتبر أوّل مفتاح يسلّمه للقارئ كي يخوض غمار القصيدة. قبل أن يُتبعه في الصفحة الأولى بمفتاح آخر اختاره عن لسان فرناندو بيسوا من كتابه «اللاطمأنينة»: «لا أعرف متعة تعادل قراءة الكتب، الكتب هي تمثيلات الأحلام، دائماً مع كلّ خطوة يأتي التعليق على المقروء ليوقف تسلسل السّرد، بعد دقائق، أصبح أنا كاتب الكتاب وما هو مكتوب فيه لا يغدو موجوداً في أيّ كتاب». وبذلك، يبرّر الشاعر ثيمة عمله الجديد التي تجعل من المجموعة نصّاً شعرياً واحداً يروي من خلاله «حكايةً عن الرجل الذي أقامَ في الرجل الخطأ، وظنّ سنيناً أنّه هو، وتحصّل على ديونه، ودفع فواتيره، وكان يظنّ أنّه إن أطال القيام أسعد الأهل، وإن نهض أفرغ المكان، وكان يظنّ أنّه هكذا يغنيه، وأنّه هكذا يوصل الرسائل ويفرح المؤمنين».
لا ندري ونحن نلاحق الكلمات هل سكن النبيّ في الشاعر، أم سكن الشاعر في النبي؟ هي حكاية منافسة لم تتوقّف يوماً بين الكائنين. يتقمّص الشاعر روح النبيّ ليلهج شعراً بما لم يجرؤ الأخير على قوله، مكتفياً بترديد «كن لأكون، لأقتل باسمك كلّ من لا يلهج باسمك، لأرتكب المزامير القديمة» هو الخائف إن تكلّم أن ينطق عن الهوى «وخفت إن تكلّمتُ قالوا: نطق عن هوى، وإن صمتُّ، قالوا: إن هو إلا سجع كثبان».
في عمله الجديد، نلحظ تطوّراً صادماً في اللغة التي يكتبها دريوس حيث البذخ في المعاني، وفي المفردات المنسوجة بحنكة صائغ متمرّس على التّرصيع بغية الوصول إلى جملة شعريّة تحمل فخامة النصّ المقدّس، وتتخفّف في الآن ذاته من الادّعاء لتخلق نصّاً موازياً يروي من خلاله ما لم يُروَ: «قال: فكّ عنّي رسالتي، وقال: أنا يده... وقال: اقرأ». ومن هنا يعود دريوس على خلاف مجموعتيه السابقتين «خطّ صوت منفلش»، و«ثلمٌ في تفاحة طافية» لإيجاد خطوط تواصل مع أسلافه كأدونيس، وأنسي الحاج، وسليم بركات على سبيل المثال، مع التمسّك بشخصيّة مختلفة لا تشبه أحداً سواه. يكرّس بذلك نفسه واحداً من شعراء سوريين قلّة يتعاملون مع القصيدة بجديّة مفرطة، بعيداً عن الاستسهال، وسعياً خلف قصيدة تترك أثراً ولا تخبو.
خطوط تواصل مع أدونيس، وأنسي الحاج، وسليم بركات مع التمسّك بشخصيّة مختلفة

هي إشكالية المزاوجة بين الشّاعر والنبيّ، حيث الأصوات تختلط، فتخلط بذلك حيوات شخوصها «لكأني رواية آخرين في حياتي» كما تخلط بين الحياة والكتاب: «أقصد قرأت عن حياة عشتها، أو عشت حياة قرأت عنها، لكني لا أعلم إن كنت أقرأ أم أعيش» ما يفتح بوّابات التساؤل حول عبثيّة ما نعيشه بين الحياة والقراءة «أكلّما قرأت كتاباً، وجدت ريحي في خلائه؟ أكلّما رقدت أفاقت يدي على نصل، وتراقصت خلفي بيارق الفتح؟». وإذا كان الشعراء يتبعهم الغاوون، فما الذي يحمي النبيّ من الغواية؟ «مراراً أضاءتني مخاوفي، وأعتمتني قصائد الشعراء، ونجوت، لكنّ دمائي لم تنجُ، من حريق الغواية».
وبين غواية الشعر وغواية النبوّة، يتحوّل البشر إلى جندٍ «يأتمرون بأمر من ختم الكهانة، من طعن الهواء بالأسماء، ومنع الكتابة والرسوم». وعليه، فهي أيضاً ازدواجيّة الحياة والموت حيث الكلام «يُنقص الكلام ويزيد التأويل» ويخلق التساؤل حول ماهيّة الزّمن وإمكانية تجاوزه عبر اللغة. ما يجعل الشاعر كما النبيّ يتساءل عمّن يكون: وهل وجد في الحياة أم فقط في الكتاب «ولست الذي في الاسم، ولستُ خيّاطاً لأرتق ثقوب الغيب... ولستُ من في الكتاب».
«التتمات» نصّ شعريّ مختلف، يمتلك جرأة البوح ويعبر بكاتبه إلى أفق شعري رحب، يحاول من خلاله أن يجد في الجذور ما هو مختلف عمّا تسعى الحشود إلى تكريسه. بعيداً عن مخاوف ما زالت تلازمنا كلّما حاولنا الاقتراب من المقدّس.
«أستطيع أن أشكو على هذا النحو طيلة فترة ما بعد الظهيرة الحاليّة، وطيلة حياتي التي ارتديت فيها ثياب الخائفين». يعيد دريوس في مجموعته الجديدة إتمام السيرة النّاقصة، بواسطة الشّعر الذي يمتلك أدواته، ويبرع باستخدامها ليحكي من خلالها «حكاية تقول شيئاً، أو لا تقول أيّ شيء، تقتصّ من المعاني بسردها حكايات أخرى».