قد تكون المناظرة التي جرت بين الإمام الأزهري الإصلاحي محمد عبده (1849ــــ 1905) ومنظر العلمانية خلال النهضة العربية فرح أنطون (1874ــ 1922) من أهم النقاشات الفكرية التي شهدها العرب طيلة قرن ونيف. تتقاطع «المناظرة الدينية بين الشيخ محمد عبده وفرح أنطون» (بيسان ــ الطبعة الثانية) في حلتها الجديدة (بعد مرور حوالى ربع قرن على طبعته الأولى) مع أزمنة عربية مأزومة قلّ فيها الحوار وانتاج الأفكار وغلب عليها الإقصاء والقطعيات الإيديولوجية. يطرح كتاب الباحث والأكاديمي اللبناني ميشال جحا أسئلة مفتوحة على الغد، فتلك المناظرات القديمة الجديدة التي جرت بين الشيخ العالِم والمفكر والأديب لم تفارقنا بعد. لم نتجاوز ثنائيات العلمانية والدين، التقليد والحداثة، الماضوية والتحديث.

كأنّنا أمم لا تهوى سوى الركون إلى الماضي التليد والتصدي لإشكاليات الراهن بأدوات التراث وشروطه.
تميّز السجال الفكري بين عبده وأنطون أوائل القرن العشرين بأهمية فكرية ونقدية طبعت مرحلة زمنية كاملة. تفرّد النقاش بين المصلح الديني والعلماني التقدمي بطابعه التصاعدي الإيجابي رغم الاختلاف التنظيري الذي شهدته صفحات مجلة «الجامعة» (أسّسها أنطون عام 1899 في الإسكندرية).
بدأت المناظرة بعدما نشر أنطون بحثه «تاريخ ابن رشد وفلسفته» في مجلته.
حينها، اعتقد الشيخ محمد رشيد رضا أنه ينال فيه من الإسلام، فحرّض مفتي الديار المصرية على الردّ. ونتيجة لهذا الجدال، ظهر كتابان: «ابن الرشد وفلسفته» لفرح أنطون و«الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية» لمحمد عبده. السجال الذي بدأ فلسفياً بين الرجلين تطوّر وتحول إلى ست مناظرات طالت قضايا عدة كالدين والعلم، وإشكاليات الإصلاح الديني، والعلمانية والإسلام. لم يتّخذ أنطون موقف المشكّك من الإسلام والمسيحية، بل انتقد بعض رجال الدين الذين يستغلون الدين من أجل التفرقة والتنابذ، فيما رأى أن ابن رشد لم ينكر أصول الدين الإسلامي بل نظر بعقله إلى الكائنات. ناقش عبده نقطتين أساسيتين في كتاب أنطون عن ابن رشد، تمثّلت الأولى في «فلسفة المتكلمين وآرائهم في الوجود»؛ والثانية في «فلسفة ابن رشد وآرائه في خلق العالم».
أنتجت المناظرات
الست سيلاً من
الأفكار الإبداعية الجريئة


لعل الجانب الأكثر أهمية في المبارزة الفكرية بين الروائي والمسرحي اللبناني الذي يُعد أحد أوائل رموز التيار العلماني، والإمام الإصلاحي المستنير هو راهنيّة النقاش الذي دار حول الجمع والفصل بين السلطتين المدنية والدينية. لم يكن أنطون من دعاة القطيعة مع الدين، بل رأى أن الجمع بين السلطتين يؤدي إلى ضعف الأمة. الحكومة الدينية سوف تنحاز إلى أهل دينها بينما الحكومة المدنية تنظر بمساواة إلى الجميع. وبرأيه، من الاستحالة الحديث عن الوحدة الدينية لأنها أدت إلى الفتن والاضطرابات في الإسلام والمسيحية. لكن عبده خالفه الرأي، فقال في ردّه «إن الملك الحاكم لا يمكنه أن يتجرد من دينه مع وجود الفصل بين السلطتين، والأجسام التي يدبرها الحاكم هي الأجسام نفسها التي تسكنها الأرواح التي يدبرها رجال الدين، فكيف يمكن الفصل؟». أنتجت المناظرات الستّ سيلاً من الأفكار الإبداعية التوليدية الجريئة، خصوصاً إذا قورنت بالمرحلة التي ولدت فيها. ولا تكتسب أهميتها من الرقي السجالي الذي كلّلها فحسب، بل بما تمخضت عنها من إشكاليات وفرضيات ما برحت تؤرق عقول العقلانيين والفلاسفة العرب على ندرتهم، في عصرنا الراهن. يقابل أنطون قضية أساسية هي «الاضطهاد في النصرانية والإسلام» لجهة تكفير العلماء وإهانتهم وقتلهم دفاعاً عن تقاليد الدين. وينطلق من السؤال الآتي: أيهما الأكثر تسامحاً وأقل تعصباً في ما يتعلق بالعلم والعلماء: الدين المسيحي أم الدين الإسلامي؟ بالنسبة إليه، تقترن السلطة المدنية في الإسلام بالسلطة الدينية بحكم الشرع، لأنّ الحاكم العام هو حاكم وخليفة معاً. وعليه، فإنّ تحقق التسامح أصعب منه في الطريقة المسيحية التي فصلت بين السلطتين، ما مهّد للعالم سبيل الحضارة والتمدن الحقيقي. وفي أوروبا، تمكّن العلم والفلسفة من التغلب على الاضطهاد المسيحي، لكنهما لم ينجحا في التغلب على الاضطهاد الإسلامي، وهذا دليل واقعي، برأيه، على أن النصرانية كانت أكثر تسامحاً مع الفلسفة. هذا الرأي رد عليه عبده بجواب تفصيلي قسّمه إلى ثلاثة أقسام: نفي القتال بين المسلمين لأجل الاعتقاد، تساهل المسلمين مع أهل العلم والنظر من كل ملّة، إظهار طبيعة الدين المسيحي وأصوله لإثبات أنها مناقضة للعلم والعقل والمدنية.
يفند الشيخ الإصلاحي مقولة تسامح المسيحية مع العلم والفلسفة وقمع الإسلام لهما، مستحضراً محاكم التفتيش في أوروبا والمجازر التي ارتكبت إبان الحروب الدينية والحظوة التي تمتع بها العلماء والفلاسفة النصارى خلال الخلافتين الأموية والعباسية. وحاجج عبده مجلة «الجامعة» في قول الإنجيل «أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله» الذي رأته المجلة بأنّه دعوة للفصل بين الدين والدولة. لكنّه يخلص إلى أنّه لا يراد بها الفصل بين السلطة الدينية والزمنية بل تعني «إنّ صاحب السكة التي تتعاملون بها إذا ضرب عليكم أن تدفعوا شيئاً، فادفعوه له. أما قلوبكم وعقيدتكم وجميع ما هو من الله وعليه طابع صنعته، فلا تعطوا منه لقيصر شيئاً. والعلم ليس مما عليه طابع قيصر بل عليه طابع الله، فلا يمكن أن يكون العلم تحت سلطة غير السلطة الروحانية الدينية، فأي تسامح مع العلم في هذا؟». بعد ردّ عبده، أجابت المجلّة بمقالة تفصيلية على الإمام الاصلاحي. وبصرف النظر عن موقف عبده من طبيعة الدين المسيحي وأصوله، برزت النقطة الأهمّ في المقالة، تأكيدها أن العقل هو أساس كل شيء وهو المعيار الذي تُقاس من خلاله القضايا الدينية والسياسية، وبألا خلاف جوهرياً بين الأديان كمنطلق للأخلاقيات والقيم الإنسانية، وكما تصالحت المسيحية مع العلم، فالإسلام لا بد له من تحقيق هذه المصالحة، رغم الكلفة الباهظة التي دفعها فلاسفة وعلماء عرب ومسلمون على مر العصور.
المناظرات بين محمد عبده وفرح أنطون تُعد أهم سجال بين عالِم الدين والمفكر العلماني طيلة قرن ونيف، وقد تميزت باحترام آراء كل طرف وحقه في الرد الهادئ والعقلاني. فهل يستفيد العالم العربي منها إثر موجة الارتداد الحضاري التي نعاصرها؟ وهل يفتح باب الحوار لحلّ المشكلات التاريخية الكبرى في طليعتها أزمة دولة الحداثة والحريات؟