إنّ أفضل وصف يمكن إطلاقه على الدكتورة حياة الحويك (1949 ــ 2021) هو الوصف الذي أطلقته في كتابها الذي صدر بعد رحيلها المفاجئ باسم «المسكوت عنه في الإعلام الغربي». فهي كأولئك «المقاتلين والمناضلين الفكريّين الذين يعملون كخلّية نحل لبلورة نظريات في عالم الاتّصال والإعلام ووضع تطبيقاتها في إطار رؤية فكرية للحياة». درست الحويك الإعلام العربي والإعلام الغربي، ودخلت دهاليز كبريات الوسائل الإعلاميّة العربية والأوروبية حتى عرّتها تماماً، مبرزةً دور وسائل الإعلام كوسائل اتّصال للهيمنة وأدوات صراع تخدم أجندات سياسية إقليمية ودولية. ولذلك تمارس هذه الوسائل حسب ارتباطاتها انتقائية في ما تقول وتوحي، وفي ما تسكت عنه وتقصيه. والكل بحسب حياة غارق في هذه الانتقائية تصريحاً أو تهميشاً، أكان إعلاماً أيديولوجياً موجهاً أم إعلاماً ديمقراطياً يدّعي الحرية. وإن كانت تعطي ميزة للإعلام العربي الذي ينخرط في مواجهة الهيمنة الأميركية والصهيونية من دون أن تعفيه هذه الميزة من نقدها وسطوة بحثها. نقّبت في بحثها عن خلفيّات نشوء الإعلام العربي الفضائي وتكاثره الذي انطلق مطلع تسعينات القرن الماضي، وسياق تزامنه مع قيام نظام عالمي جديد بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وانعقاد مؤتمر السلام العربي الإسرائيلي في مدريد برعاية أميركية، لتصل إلى اعتبار أن ما جرى إنما جاء في إطار خطة عالم الاجتماع الأميركي دانيال ليرنر التي وضعها عام 1958 لتحديث المجتمعات في الشرق الأوسط وفق النموذج الغربيّ، بناء للأبحاث التي أجراها في لبنان والأردن ومصر وسوريا وتركيا وإيران، وتركزت حول تأثير وسائل الاتصال على الاتجاهات والعقائد والقيم السائدة. وقد استطاعت الحويك في أبحاثها أن تكشف بالتفاصيل والوقائع العلاقة بين الهيمنة وثورة الاتصالات، خاصة على ساحة الإعلام العربي، مستعرضة السياق الدولي للأحداث وتجلّياتها الإقليمية والمحلية وسياق وجود وسائل الإعلام ودورها في إطار الصورة الكبرى.
إن عمق أبحاثها وذهابها بعيداً في سبر أغوار وأهداف الفورة الفضائية التي شهدها العالم العربي وتعارضاتها وصراعاتها بين قنوات أنظمة حاكمة ومرتهنة لهيمنة أميركية، ورجال أعمال نافذين ذوي مصالح، وأحزاب وجماعات سياسية ذات توجهات أيديولوجية وارتباطات إقليمية، يوضحان حجم الضخ الهائل المنظّم الذي تتعرّض له المجتمعات العربية، وحجم الصراع القائم على التأثير بها، والذي يتّخذ أشكالاً مختلفة تصل لدى البعض إلى درجة التضليل وإثارة الغرائز كوسيلة لتحريك الطائفية والمذهبية وكل أنواع الفئويات القاتلة بحسب تعبيرها.... وصولاً إلى وصف العلاقة بين وسائل الإعلام وجمهورها «بالمحركين الذين يقودون جماهير عمياء». وهي قد اقتربت بهذا الوصف من آراء الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في وصفه للجماهير بأنها تفتقد للوعي والتفكير.
حتى وسائل الإعلام التي تعتبر أنها تخوض دوراً أساسياً في مواجهة الهيمنة الأميركية، لم تسلم من وجهة نظرها من انتكاسة خطابها بالشائبة المذهبية. شائبة تسهم في عمليات التفتيت والتحريض التي تستهدف المجتمعات العربية.
وهذا يؤشر إلى ميزة بحثية مهمّة وأساسية تمتعت بها الحويك، إذ لم يمنعها التزامها السياسي الواضح وطنياً وقومياً من نقد وسائل إعلام قد تنسجم مع بعض توجهاتها السياسية في مواجهة المشروع الصهيوني ومشاريع الهيمنة الأميركية. ذلك أن أغلب الباحثين في العالم العربي، وفقاً لرأي اختصاصيّين كأنطوان زحلان وعدنان الأمين وغيرهما، يعتبرون أن الانخراط الاجتماعي للباحث في العالم العربي أمر شائع بغضّ النظر عن مدى الالتزام بالقواعد المعرفية للبحث، أو الخروج عنها نحو التقاليد الاجتماعية التي تفرضها الجماعة حسب تعبير الأمين الذي وصف الأبحاث والتقاليد البحثية في العالم العربي بعبارة «إنتاج الفراغ» (عنوان أحد كتبه). ولحياة الحويك نقدها أيضاً في هذا الموضوع، إذ تعتبر أن غالبية الباحثين في العالم العربي أكاديميون، لا يهم أغلبهم من البحث إلّا الحصول على نقاط للترقية الوظيفية. هم لا يريدون أن يكونوا علميين ونقديين تجنّباً للكشف عن حقيقة علمية أو لأيّ تحليل أو رأي يمكن أن يُغضب هذا الطرف أو ذاك. وإن حصل العكس، فغالباً ما يطوّع الباحث الحقائق العلمية إرضاء لهذا الطرف أو ذاك. وهذا برأيها ما يفسّر عدم وجود مدارس ولا نظريات عربية في مجال الاتصال والإعلام. وقد وصفت كليات الإعلام في الدول العربية بقسوة بأنها كليات «يشيع فيها جو من العبثية العلمية من القمة إلى القاعدة».
قضية أخرى شغلت حيّزاً واسعاً من أبحاثها هي إعلام الحرب


لم ترضَ حياة الحويك أن تكون من الباحثين المحابين. في دراستها للفضائيات العربية ودورها ووظائفها، مارست النقد تجاه القناة التي قد تتقاطع معها سياسياً من حيث مناهضتها للمشروع الأميركي الصهيوني في المنطقة (المنار). وكان نقداً صريحاً وواضحاً في أكثر من مكان وعلى أكثر من مستوى. لكن مقتضى الوضوح أيضاً يلزمني أن أقول إنّ نقدها هذا كان أقلّ حدّة من نقدها اللاذع للقنوات الفضائية العربية الأخرى، خصوصاً «الجزيرة» و«العربية» نظراً لانخراطهما بشكل أو بآخر في مشاريع الهيمنة الأميركية، وكونهما تلعبان الدور المرسوم لهما عربياً في إطار التوجهات الاستراتيجية الأميركية.
تميّزت أبحاث الحويك في عالم الإعلام والاتصال بعمقها وشموليتها وبتنقلها المتمكّن والمحترف بين النظريات العلمية الاتصالية وتطبيقاتها العملية. تستحضر النظرية في سياق تحليلها في المكان المناسب والواضح بما يزيد الرؤية وضوحاً حول ما يحكم آليات العمل الإعلامي في هذه الوسيلة أو تلك. وهي عرفت كيف تدرج التفاصيل التي ذكرتها عن الفضائيات العربية وآليات عملها وإشكالياتها الداخلية في سياق الوظيفة الاستراتيجية السياسية المحددة للقناة وفقاً لجهة ارتباطها الإقليمي والدولي. فما يحدث داخل هذه القنوات من وجهة نظرها هي «ظواهر مهمة لا تُفهم إلّا في السياق الجيوسياسي الذي تتحرك ضمنه نظريات الاتصال التي تتبناها» هذه القنوات.
وكما استخدمت نظريات التواصل كعالمة متمكّنة، كذلك هي استشهاداتها بكبار الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاتصال في الغرب من لاسويل إلى ماكلوهان وبارك وفوكو وفيبر وليبمان ولوبون وسيغل وغيرهم الكثيرين، ممن أدركت مقاصدهم والاختلافات في ما بينهم عبر تنقيبها في تاريخ نشوء نظريات الاتصال وتضاربها وفقاً للمدارس الفكرية المختلفة والأسس الفكرية التي انطلقت منها، من مدرسة فرانكفورت الأوروبية النقدية اليسارية إلى مدرسة شيكاغو الأميركية الوظيفية اليمينية.
على أن هذه ليست صفة بحثية لديها فحسب تمارسها في كتابتها في تأنٍّ وهدوء، وإنّما هي صفة ملازمة لأحاديثها وحواراتها ونقاشاتها العفوية، حتى لكأنك تشعر بأن النقاش معها يأخذك في جولة معرفيّة علميّة، من خلال حضورها الذهني، وسعة اطّلاعها، وعمق معرفتها بمطوري نظريات الاتصال وعلماء الاجتماع ومواقفهم وآرائهم. معرفة تشعرك أنها احتوتهم جميعاً.
وهي لم تقف عند حدود هذه الآراء والنظريات، إنما سعت للخروج منها إلى آفاق أوسع في بحثها عن المُغفَل أو المكبوت أو المهمّش. لم تكتفِ بتشريح وسائل الإعلام وفقاً لصيغة لاسويل المعروفة «من، يقول ماذا، لمن، بأي وسيلة، وأي تأثير»، بل تعدّتها من خلال ملاحظة أن نظرية التراتبية الأميركية التي تحدد الأولويات إنما تخفي في طيّاتها القضايا المستبعَدة عن الأولويات، وبالتالي لا بدّ من النظر في «من يسكت عن ماذا ولماذا»، بخاصة أنّ القضايا المسكوت عنها قد يتجاوز دورها وتأثيرها دور المقول وتأثيره. وهنا مكمن الخطورة في الأدوار التي تمارسها وسائل الإعلام وفقاً لهذه النظرية أو تلك، خصوصاً إذا ما اجتمع ذلك في وسائل الإعلام العربية بأعمال التحريض الفتنوي التي تُمارس بأساليب شتى جغرافياً وطائفياً ومذهبياً وعرقياً. ومع اجتماع التحريض من جهة والإخفاء والتهميش من جهة أخرى، نصبح أمام إعلام يمارس التضليل بجدارة.
قضية أخرى شغلت حيّزاً واسعاً من الأبحاث الإعلامية للدكتورة حياة وهي إعلام الحرب لأن «الحرب العالمية الثالثة أحلّت وسائل الإعلام محل القوات المسلحة، موكلةً إليها (أي إلى الميديا) مهمة الهجوم في حين ترك للقوات المسلحة مهمة الردع».
وقد لاحقت منشأ الحرب السيكولوجية الحديثة من خلال متابعة الباحثين الذين اعتبروا الآباء المؤسّسين لعلم الاتصال في الولايات المتحدة الأميركية (هارولد لاسويل، دانيال ليرنر، ويل شرم، ليو لوينتال، ولوسيان باي) والذين كانوا موزعين بين وكالة إعلام الحرب الأميركية، ووكالة الأجهزة الاستراتيجية وقسم إعلام الحرب في مكتبة الكونغرس الأميركي، حيث بلوروا معاً نظرية الحرب السيكولوجية بين عامي 1940 و1945 التي تقوم بمعظمها على المسكوت عنه أكثر مما تقوم على الحقائق حسب ما توصلت في أبحاثها. وأولت اهتماماً كبيراً لدراسة قواعد إعلام الحرب الأربع التي وضعها اللورد بونسومبي عام 1945، وقد طورت من أبحاثها وأعمالها ومتابعاتها نظرية في إعلام الحرب سنكون على موعد معها في إصدار قادم لم يقدّر له أن يرى النور في حياتها. برحيل حياة الحويك المبكر، خسرنا قامة علمية رفيعة المستوى، بل خسرنا عالمة ومفكرة كانت مسكونة بهاجس البحث والتقصي وفق قواعد علمية رصينة، لا يغشها ظاهر الأمور ولا ترضى عن الغوص في أعماق القضايا المطروحة أمامها بديلاً. لقد خسرنا برحيلها أملاً بالمزيد من الإنتاج العلمي والفكري الذي كان يعد بالكثير لو قدّر لها الاستمرار في عطائها.

برعاية وزارة الثقافة اللبنانية، تقيم «مؤسسة حياة الحويك للدراسات الثقافية» و«عموم السوريين القوميين الاجتماعيين» احتفالاً تأبينياً للكاتبة والباحثة عند السادسة من مساء السبت 28 آب (أغسطس) في «مسرح المدينة» (الحمرا)