تكسّبت الدراما النفسية التشويقية شعبية واسعة على امتداد العالم. نجاح تُثبته بوضوح أرقام المشاهدات الواردة من منصات البثّ التدفّقي الأجنبية. أمام هذا الواقع، يسير صنّاع الترفيه العرب على هذه الخطى باجتهاد شديد، خصوصاً في الآونة الأخيرة. هكذا، صرنا نقع على الكثير من الأعمال الناطقة بلغة الضاد التي تنتمي إلى هذا النوع.قُدّمت الكثير من التفسيرات والتحليلات للأسباب الكامنة وراء شهرة هذا الـ «جنر». الروائية والكاتبة المسرحية الأميركية جين هانف كوريليتس، صاحبة رأي واضح في هذا الإطار. صاحبة روايتَيْ You Should Have Known (اقتُبس عنها مسلسل The Undoing لـ HBO) وThe Plot الشهيرتَيْن، تعتقد أنّ إنتاجات الإثارة النفسية على اختلافها «تمنح القرّاء الفرصة لاستكشاف الدوافع الفردية من منظور عين الطائر (bird-eye)، الأمر الذي يمكّنهم من التنبّؤ بكيفية مواجهة الأفراد لخيارات مستحيلة في مواقف العالم الحقيقي». وتضيف: «أعتقد أنّ معظمنا يقضي جزءاً من وقته في محاولة تخيّل شعور الآخرين وتوقّع تصرّفاتهم. بصفتي كاتبة، لديّ مزايا معيّنة نظراً إلى امتلاكي القدرة على الوصول إلى تاريخ شخصيّاتي وخبراتها، بما في ذلك ميولها النفسية والعاطفية. كشخصيات خلقتها في ظروف خلقتها أيضاً، ليس من الصعب تخيّل كيف ستتصرّف».
هنا، تشدّد أيضاً على أنّ «العنصر الأكثر أهمية في أيّ عمل إثارة نفسي هو الذروة والنتيجة التي تليها. تعمل جميع اختيارات الشخصيات وردود أفعالها على تحفيز استنتاج شافٍ، حيث يتم تحرير التوتر المكبوت وكشف الألغاز أخيراً، عادةً مع تحوّل (twist) أو اثنين على صعيد الحبكة... عيش وموت أفلام أو مسلسلات الإثارة النفسية مرتبطان بنهايتها». في وقت لا تزال فيه الدراما اللبنانية تواجه انتقادات وتعاني من مشاكل مختلفة، خرجت في منتصف الشهر الماضي تجربة محلية خالصة (باستثناء بعض المتمّمات الفنية) من الواضح أن صنّاعها يحرصون على تقديم عمل مختلف تماماً عن السائد. عبر منصة «شاهد VIP» المنضوية تحت مظلة شبكة mbc السعودية، كان الجمهور على موعد مع مسلسل قصير مؤلّف من عشر حلقات بعنوان «دور العمر » (كتابة ناصر فقيه ــ منتج منفّذ roof top production/ بطولة: سيرين عبد النور، عادل كرم، طلال الجردي، غابريال يمّين، نوال كمال، يارا فارس، جان دكاش، علي الخليل، ريموند عازار وغيرهم). التجربة الأولى من نوعها بالنسبة إلى المخرج اللبناني سعيد الماروق، تدور في فلك الدراما النفسية التشويقية.
يطرح العمل حكاية الممثل «فارس نحاس» (عادل كرم) الذي حقّق نجاحات في محاربة الشرّ من خلال شخصية «أمير» الخيالية التي يؤدّيها في مسلسل «الجلّاد» الذائع الصيت. يلتقي البطل بـ «شمس مطر» (سيرين عبد النور)، وهي امرأة جميلة مهووسة بشخصية «أمير»، تشرع معه في تنفيذ مخطّط بهدف الانتقام من بعض المجرمين ممن يعتقدون أنفسهم فوق القانون. على طريقتهما، يلقّن الثنائي هؤلاء الفاسدين دروساً بالجملة ويسوقانهم إلى «عدالة» بأسلوبهما الخاص.
يُحيلنا المسلسل أحياناً إلى أعمال أجنبية شهيرة


منذ اللحظات الأولى، يُحسب لـ «دور العمر» محاولة التجديد على صعيد المضمون والصورة. صورة اشتغل عليها الماروق عبر «تكنيك» اعتمد على العدسات والكادرات المنوّعة، خدمةً لفكرة العمل الذي تتنقّل خطوط حبكته بين الماضي والحاضر، وبإيقاع سينمائي يقترب من «المواصفات العالمية»، وفق ما سبق أن أكّد في حديث إعلامي. غير أنّ حسابات الماروق خابت عند التنفيذ، إذ جاء التنويع مزعجاً ومشتِّتاً غالباً، في ظلّ كثرة الاستعراض البصري، ناهيك عن العشوائية والإسراف في استخدام الموسيقى التصويرية التي ألّفها سائد هاشم والمؤثّرات الصوتية. أخفق سعيد الماروق الذي انتقل إلى السينما من عالم الفيديو كليبات، في إدارة الممثلين الذين جاء أداؤهم متفلّتاً وأدنى من المستوى المطلوب. وفيما استفاضت سيرين عبد النور في التصنّع والمبالغة في التعبير، قدّم عادل كرم أداءً عادياً ومتأرجحاً، وإن كان فشل في نواحٍ عدّة في كسر جمود جسده وتعابير وجهه. مشكلة «دور العمر» الأساسية تتمثّل في نصّه الذي يطرح فكرة الصراع بين العدالة واللاعدالة، الحق والباطل، في موازاة تطرّقه الدرامي إلى أسلوب تنفيذ العدالة، انطلاقاً من الدوافع الرئيسية للبطلين اللذين عانيا من كمّ كبير من الظلم في حياتهما. حوارات ركيكة وهشّة، وسيناريو ضعيف يبقى عائماً على سطح الأمراض النفسية التي يحاول تظهيرها من خلال أبطاله، وتحديداً الشخصية السيكوباتية التي تلعبها سيرين عبد النور.
إلّا أنّنا نشير إلى أنّه مع اقتراب العمل من نهايته، وبغضّ النظر عن سيل الكليشيهات، تأخذ الأمور منحى مغايراً للتوقّعات نوعاً ما، فاتحةً المجال أمام تحليلات المشاهدين وتنبّؤاتهم للموسم الثاني الذي بدأ التحضير له فعلاً. ولا يخلو «دور العمر» من مشاهد وخيوط تحيلنا إلى أعمال أجنبية شهيرة، على رأسها سلسلة Assassin›s Creed (شكل ومضمون شخصية «أمير») وفيلما Girl, Interrupted (عام 1999) وSalt (عام 2000) من بطولة أنجلينا جولي (شمس مطر). ترافق إطلاق هذا العمل الدرامي في تموز (يوليو) الماضي مع حملة ترويجية واسعة، ولا سيّما على السوشال ميديا. ومع عرض الحلقتين الأُوليين، بدأت تعليقات التهنئة والمديح تنهال على منصات التواصل الاجتماعي. ترافق ذلك مع موجة «تلميع» قادتها أسماء معروفة في عالم الإعلام من المؤكّد الآن أنّها حمّلت ضميرها كثيراً. «دور العمر»، تجربة بالإمكان البناء عليها لخلق أعمال لبنانية خالصة مؤهّلة لمنافسة مصر وسوريا المتمرّستين في هذا المجال، شرط إجادة استخدام الإمكانات الإنتاجية الكبيرة المتاحة والاعتناء بالنصّ أوّلاً (الاعتماد على ورش الكتابة ربّما)، قبل اختيار الممثلين وتطويع أدائهم بشكل جيّد لخدمة المشروع.

«دور العمر» متوافر على «شاهد VIP»