في ظلّ اشتداد الأزمات الاقتصادية، تُفرز ظواهر على هامش الطاحونة الكبيرة التي تدور في لبنان، وتتحكّم بها عوامل شتى لعلّ أبرزها فرض الأجندات السياسية التي باتت معالمها واضحة على القنوات اللبنانية، وفي مفاصل برامجها السياسية المستمرة حتى في فترة الصيف. التوتر الأعلى الذي تشهده البلاد واختناق اللبنانيين جراء أزماتهم المعيشية المتراكمة، يستتبعان بالطبع، شحناً إضافياً على المقلب السياسي، وزيادة منسوبه، وإفرازه بالتالي ظواهر في القطاع الإعلامي يراد أن تُكرَّس في ظل الفوضى المنتشرة. في الأيام القليلة الماضية، كنّا أمام حادثتَين متفرّقتين، واحدة في «الأونيسكو» والثانية في بعبدا أي القصر الجمهوري. يجمع بين الحادثتين أنّ المراسلتين ـ أي ليال سعد وراوند بو خزام ــ تتبعان لوسيلة إعلامية واحدة: «الجديد»، وأن الرجلين أي ميشال عون وجبران باسيل ينتميان إلى فريق سياسي واحد، تفتح القناة عليهما النار منذ أشهر. الحادثتان اللتان ذهبتا تجاه الشعبوية ولعبة السوشال ميديا، وأخفتا الإشكاليات الأساسية لمهمة الصحافي أو المراسل، فتحت في المقابل العين على تجربة إعلامية محلية ـــ أي «الجديد» ـــ سعت ولا تزال إلى تكريس هذا النوع من الأداء الذي يقفز فوق المهنة، ويحيلنا أمام سيل من الشخصنة و«الغطرسة» و«فائض القوة»، واستخدام هذه المهنة وبطاقتها التعريفية لممارسة أدوار أخرى لا تمتّ لها بصلة.
يجمع بين الحادثتين أنّ ليال سعد وراوند بو خزام تتبعان لوسيلة إعلامية واحدة


القناة التي بنت في الأصل سمعتها على الاستعراض وإثارة الجدل والإفادة من هذا الجدل للصعود، أعادت الكرّة في الحادثتين اللتين سُطِّحتا، وتدخل الخصومة السياسية في صلبهما. رأينا سيلاً من التغريدات وحتى مساحات ورقية صحافية عربية ومحلية، تؤوّل سياسياً حركة بو خزام إلى جانب باسيل في مؤتمره الصحافي، وتستخدم حتى لغة التعميم كأن يُقال إنّ حركة المراسلة تعبّر عن جلّ اللبنانيين، أي ما بدا منها من انزعاج وتململ واضحَين تجاه باسيل. وعلى مقلب المراسلة الأخرى أي ليال سعد، علت الصرخة وقتها، وراح بعض المواقع الإلكترونية ومعها منصات التواصل الاجتماعي، تنقل ما عُمّم على أنه «عنف لفظي» تعرّضت له المراسلة في القصر الجمهوري، من قِبل أحد الضباط هناك، عندما سألته عما إذا كان رئيس الجمهورية سيُلقي خطاباً من دون أن تستخدم لقب «رئيس». تبين في ما بعد ــ بحسب مراسلة otv جويس نوفل التي كانت شاهدة على الواقعة ــ أن القصة مجتزأة وأن الجزء المبتور منها يخصّ شتيمة نطقت بها سعد تجاه عون والعسكري. حادثة سعد ذهبت حصراً في النقاش حول استخدام الألقاب والتفخيم من قبل الصحافي، واستنكار ما تعرّض له المراسل في القصر الجمهوري من «مضايقات»، ضمن جوقة تتحرك تبعاً للأهواء السياسية، وتصمت في حال تعرّض مراسل ينتمي إلى الخندق المقابل لمضايقات مماثلة. في الواقع، فتحت هاتان الحادثتان، سيلاً من الأسئلة حول هذه المهنة، ومهام المراسل، ونقله للحقائق بدون تزييف، أو استغلال سياسي لها، أو حتى تعاطيه مع الضيف في الاستديو، أو في حال وجوده في مؤتمر صحافي. قصة سعد على سبيل المثال، أحالتنا حكماً إلى تلك المقابلة الشهيرة مع السفيرة الأميركية في بيروت دورثي شيا، التي قطعت أميالاً من عوكر إلى المصيطبة لتتواجد في استديوات «الجديد»، وأمام سعد التي قدّمت لها كلّ فروض الطاعة، وراحت توجه لها أسئلة ملقَّنة سلفاً، تتعلق بالأوضاع الحكومية الداخلية، في خروج واضح على مهام هذه السفيرة، وتكريس تدخُّلها الوقح في السياسة الداخلية. كلنا يذكر سؤال سعد وقتها لشيا عن «تقييمها لعهد ميشال عون»، لتبدي بعدها السفيرة خجلها من السؤال، و«تنفض يدها من هذه الورطة»، وتحيل السؤال إلى الشعب اللبناني. هذه المقابلة/ النموذج يمكنها أن تعطينا فكرة عن كيفية التعاطي مع الضيف، عن الأجندات السياسية، وأكثر عن طرق المخاطبة التي ـــ وبسحر ساحر ـــ تتحول إلى حفلة من التبخير والتعظيم، بخلاف رئيس البلاد الذي تعمل المحطة منذ أشهر على تحطيم صورته، وأبلسته وتجيير كل المصائب تجاهه. في البيان الأخير للقناة ردّاً على ما أسمته حملة تطالها وسط خروج معلومات عن استقالات جماعية من قسم «الأخبار» فيها، كان لافتاً حتى في هذا المانيفستو استغلاله أيضاً شعارات لطالما اتّخذتها «الجديد» لصناعة وتضخيم صورتها، كالتذكير بـ «صراحتها» و«وقوفها بالمرصاد للفساد والدجل والنفاق السياسي». لا ولن تفوّت المحطة أي مناسبة لتقتنصها وتصنع منها حدثاً للترويج لها، فحادثتا «الأونيسكو» و«بعبدا» حضرتا في نشرة السوشال ميديا لديها، إن فات المشاهد التقاطهما عبر رادارات منصات التواصل الاجتماعي!