عندما دخلت الولايات المتحدة الأميركية الحرب العالمية الثانية، لم تجنّد الحكومة الشباب والشابّات فقط، بل انضمت هوليوود أيضاً إلى الحرب. أطلقت الحرب العالمية الثانية، موجةً جديدةً من الأفلام الدعائيّة (بروباغندا) الحربيّة المستمرّة حتى يومنا هذا. انخرطت هوليوود في مهمّة إقناع الأميركيين بدعم المجهود الحربي. لدى مكتب معلومات الحرب في الولايات المتحدة وحدة مخصّصة حصريّاً لأفلام هوليوود، كانت ولا تزال الوسيلة المثاليّة لتشكيل الرّأي العام. كشفت تقارير «قانون حريّة المعلومات الأميركي» عن شراكة هوليوود مع برامج البنتاغون ووكالة الاستخبارات الأميركية. وأظهرت الوثائق أن الحكومة الأميركية عملت وراء الكواليس على أكثر من 800 فيلم سينمائي وألف فيلمٍ تلفزيوني، من الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى حرب فيتنام والعراق وأفغانستان. كان للسينما الدعائيّة تأثيراً على المجتمعات والأنظمة. قوة شاركت في الحروب ودمّرت أفراداً وسلطات. ولا تزال البروباغندا تستعمل اليوم بتأثيرٍ أقوى بعدما أصبحت الأفلام في متناول الجميع على بُعد كبسة زرٍ فقط. منذ الحرب العالمية الثانية، شجّعت الحكومات الأميركية عسكرة الثقافة الشعبيّة، على الرّغم من أنّ الدّعم الحكومي ليس شرطاً أساسياً لتصوير أفلام الحرب في هوليوود. ولا تتطلّب «سينما الأمن القومي» بالضرورة إشراك جهاز الأمن القومي الفعلي في عملية الإنتاج. لكنّ القسم الأكبر من هذه الأفلام، يُسهم في استبدال الواقع بالواقع المصوّر، ويعمل على حصد التأييد الشعبي والتغنّي بالقوميّة وإضفاء الشّرعية على العمليات العسكرية وانتزاع أهليّة العدو وإنسانيّته.
من «الرجل الحديدي»

اليوم، تتصدّر أفغانستان عناوين الصحف حول العالم بعد انسحاب الجيش الأميركي من كابول، تاركاً البلاد في أيدي طالبان. بدأ الصراع في هذا البلد الآسيوي عام 1979 ضمن أطول وثاني أغلى حربٍ في تاريخ الولايات المتحدة. تأثير 42 عاماً من هذا الصراع، وعشرين عاماً من انطلاق «الحرب على الإرهاب» ليس فقط على الأرض والسياسة، بل أيضاً على الشاشة الكبيرة. سينما الحرب في هوليوود بعد اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) لم تسائل سبب حصول ذلك، لكنّها تركّز فقط على كيفيّة ربح الحرب. تعلّمت هوليوود من الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام، وأفلامها عن الحرب الجديدة صارت تحلّل الصراع على الأرض وكيفيّة تزاوج الديمقراطية مع الدّعاية الحربية، ممّا جعل أفلام هوليوود بعد الهجمات على مركز التجارة العالمي، أكثر عمقاً من خلال الدخول أكثر في التعقيد الأيديولوجي، والآثار النفسية للحرب على الجيوش والصراعات السياسية في القاعات المغلقة والتقسيم الجيواستراتيجي للمناطق. وغالباً ما تحمل هذه الأفلام سخريةً أو نقداً إزاء المؤسسات والسياسات. استراتيجية الدعاية هذه أكثر دقّةً من الأفلام المباشرة، تخفي دعاية الدولة بشكل فعّال وتسمح بالنّقد المحدود أو التّصوير السّلبي للحرب. في النّهاية وقبل الختام، طالما أنّ هوليوود هي مصنع أحلام أميركا، سنستمر في العيش والموت في كابوس صناعة سينمائيّةٍ عسكرية كما قال ماثيو ألفورد في كتابه «سينما الأمن القومي: الدليل الجديد للسيطرة الحكومية في هوليوود». على الرغم من أنّ أفلام هوليوود عن وفي أفغانستان والحرب على «طالبان» بدأت بعد هجمات 11 أيلول، إلا أنّنا لا يمكن أن نلغي الأفلام التي سبقت هذه الحرب بسنواتٍ كثيرة، وقد مهّدت لها بشكلٍ أو بآخر. بعض الأمثلة مدهشة حقاً، خذ فيلم «رامبو 3» (1988)، الذي تدور أحداثه خلال الحرب السوفييتيّة في أفغانستان. شيطن الشريط السوفييت وصوّر حلفاء أميركا حينذاك، أي «المجاهدين» الإسلاميّين، على أنّهم بطوليون وإن كانوا متوحّشين أغبياء تماشياً مع الصور النمطيّة لهوليوود عن العرب والمسلمين. والشيء نفسه حصل في فيلم جيمس بوند «أضواء النهار الحيّة» (1987)، عندما ساعد «المجاهدون» جيمس بوند ضد السوفييت. وقتها، تلقّى «رامبو 3» الدّعم من وزارة الخارجيّة، وعكس فيلم جيمس بوند سياسة الحكومة الأميركية بشأن المجموعات الإسلامية.
واقع مصوّر يعمل على حصد التأييد الشعبي والتغنّي بالقومية وإضفاء الشرعية على العمليات العسكرية وانتزاع انسانيّة العدو


على مدار السنوات العشرين الماضية، أخبرتنا هوليوود الكثير من القصص عن الحرب في أفغانستان. وعلى الرّغم من أنّ أكثريّة الأفلام كانت ذات نزعةٍ بطوليّة ونصرٍ محقّق، إلّا أنّ بعد سنواتٍ عدّة، بخاصة بعد الحرب على العراق، تغيّر الوضع بعض الشيء وسُحبت المباركة الوطنية، واعتبرت هوليوود إلى حدٍّ ما أفغانستان مستنقعاً من الرّمال المتحرّكة سيبتلع الجميع. تجلّى ذلك خصوصاً مع فيلم «فهرنهايت 9/11» (2004) لمايكل مور، الذي عرف فوائد الدعاية لقضيّته، وقال إنّه «أميركي أكثر من أي شخص آخر»، وسخّر أفلامه لمحاربة بوش الابن وتجريده من أي مصداقيّة، وراهن على أنّه غبيّ وعديم القيمة. عام 2007، أعادنا المخرج مايك نيكولز وكاتب السيناريو آرون سوركين مع الممثّلين توم هانكس وجوليا روبرتس وفيليت سيمور هوفمان إلى عام 1980 عبر فيلم «حرب تشالز ويلسون» الذي يستند إلى كتاب جورج كرييل «حرب تشارلي ويلسون: القصّة غير العادية لأكبر عمليّة سريّةٍ في التاريخ». يخبرنا الشريط كيف قام عضو الكونغرس ويلسون ــ بتشجيعٍ من الأفكار المتطرفة المناهضة للشيوعية لصديقه جوان هيرينغ ـــ بجمع الأموال لتسليم الأسلحة سرّاً إلى الأفغان حتى يتمكّنوا من محاربة السوفييت من دون أن يعرفوا أنّهم تلقّوا مساعدةً أميركية. على الرّغم من أنّ الفيلم يحمل الكثير من التصريحات والعبارات الوطنية، إلّا أنّه اكتنف انتقادات هائلة لطريقة تنفيذ السياسات الخارجية والأداء الداخلي لأجهزةٍ مثل وكالة المخابرات المركزية. وفي السنة نفسها، طُرح فيلم «عداء الطائرة الورقية» لمارك فورست المقتبس عن كتاب الأفغاني خالد حسيني. الكتاب يروي قصّة أميرٍ الشاب الأفغاني الذي يعيش في كاليفورنيا، لكنه يعود إلى أفغانستان لإنقاذ صديقه حسن. حوّلت هوليوود العمل إلى خطابٍ يناسب خطابها. وأبعد من ذلك، الفيلم عبارة عن سلسلة من الحلقات الدرامية التي تقوم على استغلال الفقر والبؤس من جهة، وقوة الأحلام وأمل الأطفال في التغلّب عليها من جهة أخرى. باختصار، فيلم يخفي الدراما الحقيقيّة للحرب المصوّرة في الكتاب.

من «زيرو دارك ثيرتي»

من هذه الأفلام التي تحمل النّزعة الدراميّة والسياسية وبعض النقد، انتقلت هوليوود إلى الدّعاية المباشرة بأفلام حربٍ اعتدنا مشاهدتها، أوّلها فيلم مارڤل «الرجل الحديدي» (2008)، الذي ينقذ العالم ويهزم الشر المتمثّل في «طالبان» ببدلةٍ مدرّعة عالية التقنية صنعها بعد خطفه في أفغانستان. لم تنتظر هوليوود أكثر من عامٍ بعد وفاة أسامة بن لادن لتقدّم لنا «زيرو دارك ثيرتي» الذي يروي قصة مجموعة من عملاء وكالة الاستخبارات المركزية أمضوا أكثر من عقدٍ في تتبّع أسامة بن لادن. الفيلم يمجّد مجموعة العملاء الذي يدور حولهم كل شيء. وعلى الرّغم من أنّه مُقتبس من بعض الوقائع الحقيقيّة، إلّا أنّ الخيال يأخذ الحيّز الأكبر من الفيلم بحيث أصبحت عملية صيد بن لادن مملّة وسخيفة بعض الشيء. فيلمان آخران تمحورا حول الحرب الفعليّة التي خاضها الجنود على الأرض: «الناجي الوحيد» (2013) و«القاعدة» (2020). الأوّل مقتبس عن حادثة وقعت لمجموعة مشاة من البحرية في أفغانستان، في محاولتهم لتحديد موقع القيادي في «طالبان» أحمد شاه. فيلم بأسلوب الدراما الوثائقية، يقدّم عملاً مركّزاً على الرّوح القتاليّة العالية للجنود الاميركيين، وقوّتهم التي تشبه قوّة رامبو المبالغ فيها. أمّا الثاني، فيستعيد المفاهيم الأساسية لمغامرات هوليوود الكلاسيكية في سينما الحرب، عندما تتمكن فرق عسكرية صغيرة غربية من هزيمة عدوٍّ كبير. الأمر نفسه هنا، خمسون جندياً أميركياً فقط مقابل ما يقرب ألف مقاتل من «طالبان».
للأفلام الوثائقية دورها الخاص في الحرب على الإرهاب، وهي الأصدق في إيصال الحقيقة مثلما فعل الجندي الأميركي مايلز لاغوز. خدم لاغوز في أفغانستان كجندي كاميرا، سجّل مواد بصرية ومنتَجها لصالح قوات المشاة البحرية من أجل استخدام اللقطات لتجنيد جنود جدد. بعد ذلك، قرر لاغوز، تعديل مواده وإظهار وجهة نظرٍ مختلفة عمّا تظهره أفلام الحرب بأغلبيتها. «القتال المظلم» (2018) أكثر من مجرد تصويرٍ للصراع، بل يوضح تناقضات ساحة المعركة والخراب الناتج عن فصل الجنود عن حياتهم العاديّة للتّركيز فقط على أداء واجبهم كـ «مدافعين عن الشعب». أراد لاغوز إظهار الحرب كما هي برُعبها، بعدما سئم من ثقافة عبادة الأبطال.
من «رامبو 3»

توفي صانع الأفلام الوثائقية ومصوّر مراسل الحرب تيم هيثرنغتون في 20 نيسان (أبريل) 2011، تحت قذائف هاون في مصراتة الليبيّة. كان يبلغ 41 عاماً فقط. قبل وفاته بسنة واحدة، كان في أفغانستان حيث صوّر فيلمه «رستريبو». يروي الوثائقي حياة فصيلة من الجنود الأميركيّين تقاتل في أخطر وادٍ في أفغانستان، يسمى كورينغال. يركّز الفيلم على موقع بعيدٍ في هذا الوادي المعروف بخطره الشديد حيث يدور خُمس القتال في أفغانستان. قضى سيباستان جونغر الصحافي، وتيم هيثرنغتون المصوّر الشّهير والحائز جائزة World press Photo، أشهراً عدة مع مشاة البحرية في الوادي، للحصول على صور مروّعة للواقع القاسي للصراع. اسم الفيلم مأخوذ من اسم جنديٍّ يُدعى رستريبو، توفي عندما كان في طليعة الوادي لمدة شهرين. يظهر هذا الجندي في أول الفيلم وآخره. العمل مصوّر كأنه فيلمٌ خياليٌ لا وثائقي، اختلطت فيه لحظات القتال مع مقابلات مع الجنود الذين تمكنوا من البقاء على قيد الحياة لمدة عامٍ ونصف تقريباً. ليس هناك سياسة في الفيلم ولا حتّى تقديم سبب وجود الجنود هناك. نشاهد فقط حياتهم اليوميّة القاسية مع بعض السّكان المحليّين. «رستريبو» من أجمل الأفلام عن حرب أفغانستان، فيلم صادق، هرب من قوالب أفلام الحرب.
قبل أيّام، انسحبت القوات الأميركية من أفغانستان، ولكن الحرب لن تنتهي قريباً. نهايتها الآن لم تتوقّعها حتى السينما. ولكن على الرّغم ممّا نعيشه اليوم، فإنّ السينما، خصوصاً هوليوود، لم تنتهِ بعد من أفغانستان. سوف نرى الكثير من الأفلام عن الحرب وما بعدها. ومن يدري، بعد مدة، قد نرى طالبان الحليفة الأولى لأميركا على الشاشة كما شهدناها سابقاً.