لطالما عمل صناع السينما العالمية (الأوروبي والأميركي على سبيل الحصر) على احتواء ومحاكاة عقول ووجدان شعوب العالم الثالث من خلال أفلامهم التي تشكل الأداة الاعلامية الأكثر فعاليةً في القرن الحالي. طبعاً، الأمر متوقّع ومفهوم. فالنصف الجنوبي للكرة الأرضية يعجّ بالفقراء، حيث الزنود سمراء منذ الولادة، والأيادي خشنة. كما أنه لم يعُد بالإمكان نكران وجود هذه الشريحة، بل يجب متابعتها ورصدها، وإعداد ما يتناسب معها من وقت إلى آخر. تبقى مسألة النجاح في دائرة النقاش، ومعلّلة السبب. إذ يجب، وحفاظاً على مصداقية العمل وقبوله، البحث عن روايات ومعاناة مصدرها صلب ذاك النصف من الكرة الأرضية. بل من الضروري إيجاد من يمكنه أداء الدور بلكنة سليمة، وحتماً يستحسن أن يكون المخرج، كما الممثل، قد نهل جينياً من تلك الأصقاع. الاستنساخ غير مستحب هنا، إلا أنه لا يمكن نكران أهميته في سياق التسويق الطبيعي لأفكار الغرب «المتفوق» في مجال صناعة السينما. من جهة أخرى، يجب تقدير الجهد الدؤوب للفقراء من دول الجنوب من الممثلين في إيجاد الدور المناسب وسط كارتيلات «شبكات» الممثلين الغربيين.. تلك النخب الساعية حتى للتطاول في التمثيل على شخصية الفقير، محاولةً تجسيد صور غير مقنعة بالنسبة لجمهور تلك الطبقات.
أخيراً، ظهر فيلم «النمر الأبيض» أو The white tiger، المبني على رواية الكاتب الهندي أرافيند أديغا الصادرة في 2008، السنة التي صدر فيها فيلم Slumdog millionaire والحائزة جائزة الـ «مان بوكر». طبعاً ليس غريباً على السينما الهندية تقديم هذا المستوى الراقي والواقعي من الروايات والممثلين. فقد اعتاد الجمهور العربي أخيراً على أفلام هندية تنافس بجودة تمثيلها وقصصها المبنية على روايات وقصص، واقعية الأفلام الأميركية والأوروبية. فيلم Life of Pi سنة 2012 مثال على التعاون الآسيوي بين الهند وتايوان مثلاً. فيلما Lion و Hotel Mumbai، لا يقلّان أهمية. ويمكننا سرد العديد من الأفلام الهندية الناجحة عالمياً التي لا مجال لذكرها. أمّا ما يجب ذكره، فهو ذاك الأداء الآسيوي في «النمر الأبيض» والإخراج من خلال المخرج والمنتج الأميركي الإيراني الأصل رامين باهراني.
استطاع باهراني أن يجسد مرحلة حياة الفقراء الزمنية في العالم الثالث بتفاصيلها كافة، معتمداً على كاتب وروائي يجيد التعبير عن مآسي المنبوذين في دول الجنوب، موحّداً أسس الفقر، وانعدام العدالة الاجتماعية، ناهيك بالصراع الطبقي الذي يجسده بطل الرواية والفيلم Adarsh Gourav. أدّى الأخير دور «بالرام حالوي» السائق الذي تميز في سنين طفولته الدراسية. لقّبه أستاذه في حينها بـ «النمر الأبيض» لندرته (يظهر مرة في كل جيل) وفرادة إمكانياته التي تضيع بسبب الفقر، والحاجة للإنتاج من خلال ترك المدرسة، والعمل في أماكن إنتاج الفحم وتقديم الشاي. طموحات الفقراء بالنسبة إليهم تشبه طموحات الدجاجة التي تنتظر دورها في القن بعد أن تذبح رفيقتها من دون أن تقوم بأدنى حركة، وفق رواية «بالرام» الذي يسعى للخروج من القن. السرد الواقعي للفقراء في الفيلم يمكنه أن يطال جميع دول البلدان المنسية، لا سيما دول الجنوب وفق التقسيم السياسي. يبدأ الفيلم أحداثه حين يتواصل «بالرام» مع رئيس وزراء الصين القادم ‘لى الهند لتوقيع اتفاقيات تعاون. ينتهز بطل الرواية الفرصة لإخباره قصة حياته بكافة جوانبها اعتقاداً منه بأنها قد تعجبه، مشدداً على أن التقاليد والعادات في بلاد العالم الثالث متشابهة: إضاعة الوقت، الفقر، انعدام النقل العام، والبنى التحتية، مشاكل التعليم، والمياه، التفاوت الاجتماعي...
لا يتجسد الصراع حصراً بين الفقراء والأغنياء، بل يطال الغني في مواجهة الغني، السياسي في مواجهة السياسي، والفقير في مواجهة الفقير، السائق في مواجهة السائق الآخر، الدين في مواجهة الدين. ويظهر المشهد الديني حين يكتشف «بالرام» أنّ السائق القديم يتبع الديانة الإسلامية، فيعمد إلى تمرير المعلومة إلى سيده كي يتخلص منه وهذا ما يحصل.
يأخذك الفيلم إلى ضيق مساحة طموحات الفقراء. سائق يسعى للوصول إلى أحد النافذين المتمولين من أبناء قريته، الذي جمع ثروته من خلال فرض الخوات على الفقراء من ضمنهم والد «بالرام». مشهد اصطفاف الفقراء بدون حراك بثيابهم الرثة، ينظرون إلى الأرض، وهم يدفعون ما يجمعون لابن ذاك «النافذ»، يختصر الكثير من الصراع والحقد، لا سيما أن أماكن التصوير تجعل أعين المشاهد منغمسة في حياة الفقر بدون جهد..
ذاك الصراع بين الطموح والعبودية، تجعل «السائق» مستميتاً لإرضاء سيده، فلا بديل عن العبودية بالنسبة إلى الفقراء. تتردّد أصداء تلك العلاقة بين «السيد والعبد السائق» طوال الفيلم، وتظهر نقطة التحول حين يجبر السائق على توقيع إفادة مسؤولية صدم أحد المتسولين، والذي تسبّبت به خطيبة ابنه الهندية «بينكي» (أدت دورها بريانكا شوبرا) المتحررة من التقاليد والمولودة في أميركا.
يوقّع «السائق» من دون نقاش فيما يبدو ابن السيد «آشوك» (راجكومار راو) متململاً من الحالة، ولكن لا طائل من تدخله في تحمل مسؤولية قد تؤدي إلى سجنه، الأمر المرفوض بالنسبة لبيئة الأغنياء. التفاصيل الصغيرة التي يعيشها الفقراء لا يمكن أن تكون أفضل. الفيلم درامياً كامل الحبكة، تم تقديمه بذكاء، فالحوار باهر، والتصوير يلحظ البيئات المعدومة، كأن الحوار تصنعه مشاهد الكاميرا. النجوم من الطراز العالمي، يجسدها «بالرام» السائق بتلك البسمة الصفراء طيلة الساعتين والخمس دقائق من وقت الفيلم، فلا تختفي إلا حين قتله لسيده، بعد أن يغوص في عالم الرذيلة، فيستنتج أنّ زعيمة الاشتراكية في مقاطعته مرتشية وغير صادقة، ناهيك بعلمه بأن سيده بدأ البحث عن سائق جديد ليتم استبداله به. يبدأ «بالرام» بالتخطيط للاستيلاء على مبلغ الرشاوى التي تدفع للأحزاب للتهرب من الضرائب، ولأمور أخرى. يظهر «القتل» هنا كوسيلة لا يمكن الفرار منها. ينتهي الصراع الطبقي والحقد بين ما يجسده «السائق والسيد» عند قتل «بالرام» لـ«أشوك»... فلا يجد «السائق» مهرباً من قتله، مع علمه أن العواقب تنتهي بقتل كامل أفراد عائلته وفق عاداتهم..
لا يمكن لمشاهد الفيلم إلا أن يتعاطف مع الفقراء في مواجهة الأغنياء.. ولا يمكن إلا أن يتفهم المعاناة والمأساة، علماً أن البسمة لم تفارق ثغر «بالرام السائق» طيلة الفيلم، بالرغم من ظروفه القاسية. أما المفارقة، فهي تحول ملامح وجهه ليصبح أكثر جدية بعدما أصبح من طبقة الأغنياء، كأن شبح البؤس يلاحق أولئك من عانقت الأرض أجسادهم النحيلة فلا تتركهم حتى يعودوا اليها.

The white tiger على نتفليكس