سبق الفرنسيّ إيتيان دو لا بويسيه في نص قصير له من عام 1552 (بقي لعقود غير منشور وطُبع مستقلاً للمرة الأولى في أجواء الثورة الفرنسيّة) كلّ فلاسفة السياسة الحديثة ومنظّري الهيمنة في وضع تحليل كليّ للأسباب التي تدفع الأكثرية إلى الخضوع الطوعيّ لحكم القلّة. ويكتسب هذا النص المبهر قيمة إضافيّة للقارئ المعاصر الذي تعاظمت في أيّامه قدرة الأنظمة على تكريس هيمنتها ليس فقط من خلال تطوّر أدوات القمع والسيطرة والعنف، بل أيضاً عبر أدوات الترفيه والإيديولوجيا والرّموز في ظل تعملق معطيات التكنولوجيا الحديثة. وإذا كان ثمة من درس واحد يمكن للثوريين استخلاصه من دو لا بويسيه، فهو إدراك أن البنية التحتيّة لكل نظام وسرّ بقائه، هي في تلك الطبقة العريضة التي يحيط بها نفسه من البيروقراط والمثقفين ورجال الدين والمخبرين. طبقة مستعدّة دوماً لسحق أي تهديد لمصالحها، ولكنها في الوقت عينه قد تكون كعب أخيل الذي يؤتى النظام من قِبله
(فاطمة سيلفيسترو)

لم يسمع كثيرون باسم إيتيان دو لا بويسيه (1530 – 1563)، وقد يذكره بعضهم كصديق مقرّب من الكاتب الفرنسي ميشال دو مونتاني. لكنّ الرجل يستحق بالفعل أن يُعدّ كمؤسس للفلسفة السياسية الحديثة، ورائد في البحث عن أسباب خضوع الجماهير لحكامها. لقد سبق توماس هوبز الذي يُعدّ منظّر مفهوم الدولة الحديثة بمئتي عام، وأنطونيو غرامشي، فيلسوف الهيمنة، بأربعمئة عام تقريباً، بفضل مقالة قصيرة من أربعين صفحة كتبها بين عامَي 1552 - 1553 وهو يدرس الحقوق في «جامعة أوريان».
دو لا بويسيه المنحدر من أسرة أرستقراطيّة ثريّة، كان يتلقى علومه في جامعة تميّزت بسريان روح جديدة من الفكر المستقل والجدل المتحرر في مواجهة دوغمائيّات الكنيسة الكاثوليكيّة، ما لبثت أن أصبحت معقلاً للكالفينيّة، إحدى أهم حركات التحرر الديني في أوروبا، فيما كان تدريس الحقوق أقرب حينها إلى بحث فلسفيّ ونقاش مفتوح حول الحقيقة والعدالة والمبادئ الأساسيّة التي ينبغي أن تنظم حياة البشر مع بعضهم. أمر جعل من خرّيجيها المحامين قادة فكريين وسياسيين خلال فترة تحولات هائلة شهدتها أوروبا لحظة الانتقال بين العصور الوسطى والحديثة.
مقالة لا بويسيه، التي عنونها بـ «بحث في العبوديّة الطوعيّة» انتشرت بين دوائر المثقفين في تلك الفترة كمسودة مكتوبة. ويبدو أن مضمونها الثوريّ الراديكالي قد دفع مؤلفها للإبقاء عليها في تلك الصيغة المحدودة تجنباً للمشاكل مع النظام الملكي في فرنسا. لكنّ مصادر متقاطعة تظهر إطلاع كثيرين عليها بمن فيهم صديقه مونتاني الذي قرأ النصّ قبل وقت طويل من تعرّفه إلى شخص دو لا بويسيه في عام 1559. ولعل ما لفت الانتباه إلى المقالة وقتها أسلوبها النظريّ المجرّد ومنهجها الاستقرائيّ، ما جعلها تلويناً مختلفاً عن نصوص من تلك الفترة خطّها معادون للملكيّة غلبت عليها المقاربة التاريخيّة والحقوقيّة بشأن حقوق المواطنين الفرنسيين في مواجهة حكام غير عادلين. نصّ دو لا بويسيه في ذلك، كان أقرب إلى نصوص عصر النهضة الأوروبي التي تسامت فوق المحليّ، وخاطبت التجربة الإنسانيّة في عمومها، وتجنّبت الرقابة السياسيّة عبر توظيفها أمثلة من العصور الكلاسيكيّة عند الحاجة إلى الاستشهاد بدلاً من تسمية الواقع، تماماً على نسق كتاب «الأمير» لمكافيللي. ولكن إن كان نص مكافيللي يستهدف (شكليّاً على الأقل) تكريس هيمنة الحاكم وتمديدها، فإن نصّ دو لا بويسيه في المقابل كان دعوة جذريّة صريحة للإطاحة بـ «الأمير» وتفكيك أدوات هيمنته على «الرعايا».
سبق توماس هوبز الذي يُعدّ منظّر مفهوم الدولة الحديثة بمئتي عام، وأنطونيو غرامشي، فيلسوف الهيمنة، بأربعمئة عام تقريباً


يتجنّب «بحث في العبوديّة الطوعيّة» الوقوع في فخ شخصنة النقاش السياسي ونقد الحكام الطغاة المستبدين كأفراد عبر النّظر في «الدولة» كمنظومة كليّة يبدو الحاكم المستبد في النهاية كخلاصة رمزيّة لها. والثيمة المركزيّة للنصّ تنطلق من تصوّر أنّ الاستبداد غير ممكن، بغضّ النظر عن شكل النظام السياسي، من دون خضوع الرّعايا وقبولهم، وأنه من دون ذلك لا يمكن أن يستمرّ أيّ نظام طويلاً مهما بلغ مقدار قدرته على استخدام القمع والتجبّر والعنف. وهذا يأخذنا – وفق دو لا بويسيه – إلى المعضلة الأساسية للنظريّة السياسيّة: لماذا يخضع الناس للقلّة الحاكمة ويسلّمون بعبوديتهم طوعيّاً؟ معضلة تبنّاها هوبز لاحقاً كمبدأ أوّل للحكم، وبحث فيها غرامشي ضمن مشروعه النظريّ لتفكيك الهيمنة، متوافقين مع سلفهما الفرنسيّ على مبدأ طوعيّة الخضوع.
دو لا بويسيه يخصص مقالته للبحث في أسباب ذلك الخضوع الذليل الذي يعتبره رذيلة تامّة تتفوّق في انحطاطها على الجبن والخسّة «إلى درجة أن خيال البشر عجز عن إيجاد تسمية محددة لوصفها»، منطلقاً من افتراض أن الحريّة قانون الطبيعة ونظام الأشياء وغريزة الأحياء – حتى الحيوانات - وحقّ لكل لإنسان، كمرجعيّة نظريّة لطرح مشروعه في إسقاط الاستبداد من خلال العصيان المدنيّ والمقاومة الجماهيريّة السلبيّة الشاملة من دون ممارسة العنف، الذي هو ملعب المستبدّين والخسارة فيه شبه محسومة للطرف المدجّج بالأسلحة. «فأنت حر» يقول دو لا بويسيه «لحظة تأبى الخضوع» دو لا بويسيه هنا ليس لا-عنفيّاً كمبدأ، ولكنّه، تماهياً مع نظريته، يعلم بأن اغتيال شخص المستبدّ أو إسقاطه فعل رمزيّ القيمة لا يكفي لإزالة نظام سياسيّ قائم، فيما العصيان الجماهيري يمكن أن يكون أكثر جذريّة ثوريّة ويدفع تجاه تغيير النظام برمّته. وهو لذلك حاز اهتمام اليساريين الفوضويين، وأصبح نصّه بمثابة مرجع للتيارات اللاعنفيّة منهم.
عند دو لا بويسيه، فإن الطغاة المستبدين يأتون إما بالوراثة، أو بمحض القهر العسكريّ، أو بالانتخاب (الديمقراطيّ)، ولذلك فهو لا يجد بين هذه الأنظمة كبير فرق في سعي القلّة - بغض النظّر عن طريقة وصولها إلى السلطة - إلى الهيمنة على الأكثريّة، وإساءة استخدام التفويض الشعبيّ لخدمة مصالح المتنفّذين.
هذا التفويض قد يكون بداية نتيجة فرض الأمر الواقع بالقوّة، وتجنباً للأذى، لكن الجيل الثاني والأجيال اللاحقة تعتاد العيش في أجواء الخضوع وتتحول عندها إلى شكل يوميّ مألوف لا يمكنها تصوّر بدائل له. وهؤلاء المساكين – عند دو لا بويسيه دائماً - يستحقون الشفقة والتماس الأعذار لهم لأنّهم ولدوا في العبوديّة ولم يتذوقوا طعم الحريّة قط، فكيف تقاتل من أجل أمر لا تدرك وجوده؟ تلك الألفة تجاه الواقع والاعتياد عليه تتحوّل بمرور الوقت إلى عبوديّة طوعيّة يعاد إنتاجها من دون تساؤلات كثيرة، ويقتصر نضال غير المستفيدين على مجرّد المطالبة بتحسين شروط العبوديّة داخل الهيكليّة القائمة.
في موازاة ذلك، يتولى النظام عبر أجهزته المختلفة تكريس تلك العبوديّة وتجميلها وتمديدها من خلال مناهج متشابكة متقاطعة يحددها دو لا بويسيه بهندسة الترفيه، والتسلّط الإيديولوجيّ، وابتداع الرّموز الموجبة للهيبة والخشية. وفي الترفيه، فإن السلطات تنظّم الأنشطة الجماهيريّة الثقافيّة والرياضيّة والغنائيّة والإعلاميّة التي من شأنها صرف أنظار الرعايا عن حقيقة حياتهم وتجميل عبوديتهم، «تماماً كما يتم تعليم الأطفال نظام القراءة في كتب ملوّنة مزدانة بالرسوم ومحلّاة بالشخصيات المرحة». أما التسلّط الإيديولوجي، فيتم من خلال مؤسسات (المجتمع المدني وفق تعريف غرامشي): الدين الرسميّ، والقضاء، والتعليم والجامعات ونظم الإعلام وحتى الأحزاب السياسيّة المرخّص لها. وهذه تتقاطع معاً لخلق صورة كليّة إيجابيّة عن النظام بوصفه أساساً لا بدّ منه لضمان توازن المجتمع، وفرض هيبة القانون، وتحقيق العدالة، وتوفير معاش الناس. وتأتي الرّموز كشكل أعلى وأكثر تعقيداً من التسلّط الإيديولوجي، فتمنح النظام في ذهن العامّة هيبةً وغموضاً وحتى خشية ممخضة بالإعجاب تراوح بين تقديس الأفراد والحكم المؤيَّد بإرادة الآلهة وما بينهما من درجات، وجميعها تهدف إلى إيصال الخاضعين إلى درجة التحمّس والرضى عن الذات لخضوعهم.
وبجانب الترفيه والإيديولوجيا والرموز كبنية فوقيّة للهيمنة، تتشكّل البنية التحتيّة والأساسات العميقة لمعمار النظام من سيطرته على الموارد الاقتصاديّة للمجتمع وإنفاق جزء منها في تقديم أعطيات ورواتب ومكارم ماديّة تُشعر الخاضعين باستفادتهم الشخصيّة من الأوضاع القائمة. إذ يؤسس النّظام من فوره هيكليّة بيروقراطيّة تدير أعماله في مختلف المجالات، ويستجلب خدمات مستويات متراكبة من المستفيدين والموالين والمخبرين الذين يتحوّلون إلى طبقة عريضة. «فستة من وزراء الملك وكبار مستشاريه يعيشون على أفضال الملك، سيحتاجون إلى ستمئة من الموظفين والمساعدين والمخبرين، وهؤلاء بدورهم سيديرون مؤسسات علنيّة أو سريّة تضم ستة آلاف آخرين وهكذا ربما تصل إلى عدة ملايين بعوائلهم وشبكاتهم الاجتماعيّة ممن يرتبط رزقهم اليومي وامتيازاتهم وطموحاتهم بالنظام القائم». وهؤلاء يكونون – وفق دو لا بويسيه – أقدر على اضطهاد العامّة والقسوة على المعارضين من وجوه النظام الكبار الذين يستمرون دائماً في لعب دور الشرعيّة والعدالة.

نصّ دو لا بويسيه الجذري المؤسس في علم السياسة، كان في الحقيقة كل ما كتبه في هذا السياق


وبحسب هذا التوصيف لديناميّات الهيمنة، يبدو التغيير مهمّة أقرب إلى الاستحالة العمليّة. ولكنّ دو لا بويسيه يصرّ على أن نخبة عنيدة واعية في كل مجتمع، تظلّ قادرة على كشف الخداع وإدراك حقيقة ما يجري، ولا تتوقف عن محاولة كسر تلك الأوضاع البائسة التي لا تليق بالبشر. هذه النخبة بعكس الأكثريّة - التي لا تدرك أغلالها - تمتلك الرؤية والبصيرة التي تُصقل بالقراءة والتعلّم، وتتمسك بالحريّة، ورفض الخضوع. هؤلاء عنده وُجدوا في كل وقت وكل مجتمع، وهم وإن لم يختبروا الحريّة بأنفسهم لأنهم نشأوا في مجتمعات مستعبدة، فإنهم لا محالة سيعيدون اختراعها. ويستمر هؤلاء بلا تأثير وازن لأنهم متفرقون في مواجهة حالة تسلّط إيديولوجي كامل، لكنّهم يكتسبون قوّة مضاعفة عندما يلتقون كطليعة تنظيم ثوريّ مقاوم يتولّى مهمة بثّ التنوير وكشف الأوهام والأغلال التي تكبّل عقول الناس. ورهان دو لا بويسيه، بعد تفشّي هذا الفكر الجديد بين العوام، أن تجد قطاعات متزايدة من الطبقة البيروقراطيّة - التي هي سر ديمومة هيمنة النظّام - أن مصالحها قد تتعرّض للخطر لو انقلبت الأكثريّة ضد السلطة، ولذا يمكن في لحظة حرجة ما أن تغيّر ولاءاتها وتنحاز إلى قوّة جديدة صاعدة، ما يعني عملياً سقوط النظام القائم بتهاوي أساساته من دون الحاجة إلى عنف واسع.
نصّ دو لا بويسيه الجذري المؤسس في علم السياسة، كان في الحقيقة كل ما كتبه في هذا السياق. بعد تخرّجه من الجامعة، عاد إلى أجواء طبقته الأرستقراطيّة وامتيازاته الموروثة، والتحق تالياً بخدمة النظام الملكيّ، وارتدّ إلى الأفكار الرجعيّة المحافظة، أقلّه كما يفهم من نص نشره قبل وفاته المبكّرة بعام واحد. لذلك أُهمل بحثه الجامعي واحتقر كثيرون صاحبه لتناقض سلوكه مع أفكاره المكتوبة. لكنّ الاهتمام ما لبث أن عاد لـ«بحث في العبوديّة الطوعيّة»، فطُبع كنصّ مستقلّ مرتين خلال مرحلة الثورة الفرنسيّة، وتبنّاه الفوضويون على نطاق واسع لاحقاً، فيما تولّاه آخرون بالنقد. اتهمه بعضهم مثلاً بالاكتفاء بوصف حالة العبوديّة الشاملة من دون طرح استراتيجيات فاعلة للتعامل معها، ولا سيّما مع تعمّق قدرة الأنظمة على ممارسة الهيمنة على ناسها مع تطوّر منهجيّات وأدوات القمع والسيطرة والتأثير معاً بمرور الوقت. لكن ذلك تحديداً قد يكون سرّ حيوية هذا النصّ وأهميته حتى للقارئ المعاصر خارج أسوار الأكاديميا. فهو يضيء على مبدأ حاسم يفسّر استمراريّة نظام الدّولة بناءً لقبول الأكثريّة به، وكشف بوضوح الآليات التي تتضمنها عمليات هندسة الخضوع وتكرّس هيمنة هذا النظام على رعاياه، بما فيها تشابك المصالح السياسيّة والاقتصاديّة لطبقة واسعة من البيروقراط والمثقفين ورجال الدين والمخبرين التي تنافح عن الأوضاع القائمة ويمكنها أن تقاتل مواطنيها من أجل بقائه. وهو بذلك يرسم ضمناً برنامجاً ثوريّاً متكاملاً للتغيير يبدأ ربما من إسقاط وفضح تهافت مثقفي النظام وبيروقراطييه، وتوجيه الأنظار نحو عقم المنظومة بدل انتقاد الأخطاء ومواضع الخلل الظاهرة، ومن ثم التلاقي لبناء نوع من طليعة ثوريّة تتولى توسيع دائرة التنوير، وتقييم الأوضاع القائمة، ورسم رؤى بديلة للمستقبل، والاستعداد العمليّ لحسم الصراع على السّلطة لحظة توفّر تأييد واسع من الأكثريّة، وهو تأييد قد يسهل نسبياً تحقيقه في وقتنا - على الأقل مقارنة بأيّام دو لا بويسيه – مع توسع أدوات التواصل البديلة وتعددها، وتقلّص مدى قناعة الأكثريّة في معظم دول العالم بقدسيّة القلّة أو نزاهتها.